أحمد الحربي مبدع استثنائي، أقولها بضمير نقدي مستريح بلا مبالغة ولا مجاملة؛ فهو من القلائل في تاريخنا الأدبي الذي أجاد في كثير من الأنواع الأدبية.
صحيح أنه شاعر في المقام الأول، بدأ مسيرته شاعرًا، وأخلص للشعر؛ فأصدر دواوين تمثل علامات في الشعرية العربية المعاصرة جمعت في أعمالة الشعرية الكاملة 2016م، كما كتب المقال بألوانه وموضوعاته، وجمع كثيرًا منها في كتب مستقلّة، وكتب الرواية، وأدب الرحلات، وفي التاريخ وجناية المؤرخين، وجمع في كتاب واحد بين فحولة النثر وأنوثة القصيدة، وكتب فيه جزءًا من سيرته الذاتية، وخص بها السيرة المرضية.
ولكننا سنتوقف أمام فن قل مبدعوه في عصرنا الحديث هو فن المسامرات الأدبية الذي أصدر فيه كتابه «نخر السيل».
ويتسم فن المسامرات بأنه أرخبيلي عبر نوعي؛ ففيه الشعر والمناظرات والطرف وحديث العلم والدين والسياسة والملح والغناء وفنون الترويح، وهو فن قديم بدأ بالجاحظ الموسوعي في كتابه المنسوب إليه «مسامرة الضيف بمفاخرة الشتاء والصيف» والمحاسن والأضداد، والبخلاء، ثم تأتينا كتب المسامرات المختلفة؛ ككتب الأمثال، ونثر الدر للآبي، والبصائر والذخائر للتوحيدي وأخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي والجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي للمعافى بن زكريا والزهرة لمحمد بن داوود، والظرف والظرفاء للوشاء ونشوار المحاضرة...إلخ.
ثم يأتي العصر الحديث فيشحب هذا اللون شحوبًا؛ فيعز علينا جمع بضعة عناوين في هذا الفن حتى اضطر العلامة محمد رجب البيومي أن يضع عنوانًا فرعيًا أسفل عنوان كتابه النادر «طرائف ومسامرات: شؤون أدبية واجتماعية وسياسية مما جرى في محيط الحياة في القديم والحديث»، ليذكر القرّاء في عتبة العنوان بمفهوم هذا النوع الضائع، ليصل ما انقطع من تراثنا الثرّ.
ويأتي أحمد الحربي ليكتب كتابه الفريد في هذا النوع المنقطع: «نخر السيل: مسامرات أدبية» ويقسمه ثلاث عشرة محطة مسبوقة بشكر وإهداء ومدخل وتنويه ومردوفة بخاتمة.
يبدأ المحطة الأولى بمزيج من السرد السيري والتنظير النقدي لفن شعري نادر هو فن الإجازة الشعرية والمماتنة والإنفاد، وهي فنون شعرية تفاعلية، فيترك لصديقيه الشاعرين عثمان الحربي وإدريس دور المتماتنين، ويكتفي بدور الراوي العليم والناقد الشارح تارة؛ كصنيع ابن قتيبة وأبي حيان وابن رشيق وابن أبي الإصبع والصفدي والسيوطي في مسامراتهم.
ويحتفظ في المحطة الثاني ببطل مسامرته الشيخ عثمان حربي وينتقل من صوت أبي حيان المسيطر في الإمتاع إلى صوته الخافت في الهوامل والشوامل بالنسبة لصوت ابن مسكويه؛ فيعلو صوت عثمان حينا وإدريس حينا، ويستتر صوت الحربي في صوت الراوي وتستمر لعبة المسامرة.
وفي المحطة الثالثة يمزج بين أدب الرحلة وأدب الفكاهة فيكون البطل هو الكاتب الساخر زكريا تامر وأحبولة السرد مجموعته الساخرة «النمور في اليوم العاشر».
وفي الرابعة يكون بطله الشاعر علي بن أحمد الحربي فيروي من شعره ويجيزه ويماتنه، ويعلق ويحلل بصوت هامس، وهكذا تستمر لعبة السرد وتبادل الأدوار بين الأبطال في مراوغة الحضور والغياب للسارد، الذي يهمس للقارئ حينًا أن ينتبه، ويأخذ بيده ليفهم ويستوعب في تنوع لموضوعات مسامراته حسب مواضعات هذا النوع؛ إنه فقه أحمد الحربي بالنوع الأدبي.
** **
- أ.د. محمد سيد علي عبدالعال