الحب، الذي أؤمن بأنه هو الحياة، وجدته في زهور كرام؛ كانت كل رسالة تكتبها تمهرها مكان التوقيع بكلمة «أحبك». كلما وصلتني رسالة في قضايا الدرس أعلم قبل أن أختمها أنها ممهورة بـ»أحبك». وما خُذِلتُ مرة. لطالما آمنت بأن الحب هو الحياة، وأسمى الحب حب الجمال. آمنت بأن الحب ليس قصرًا على الحبيب؛ فالحب للجمال، للأهل، للصديق، للعلم، للبيت، للمعلم.. الحب هو قلب الحياة ونبضها الأبقى. وفي زهور كرام وجدت إيماني بالحب.
«أهم لقاء في الحياة هو الذي يولد تلقائيًّا من المؤلفين من خلال أعمالهم». هكذا قال لي محمد بنّيس. وهكذا التقيته في كتابه «يحرقون الحرية». لقد كتب كتابه هذا وهو على مشارف السبعين، وقرأته وأنا عمري ثلاثة وعشرون؛ فسحبني إلى حيث عنده كما يصطاد أحدكم السمك بالسنار! لقد كبرتُ بفكر بنيس بطريقة قسوت بها على نفسي، كما لو مسك أحدهم ساق طفل، ومدها إلى طول ساق رجل. هكذا استبقت به عمرًا يأتيني من الأمام! هو طلعة الأربعينيات في غرة الألفية، وما أنا جئته من آخر العمر أغرس ما فات، بل هو سكب على البذر الماء. أنا من جيل أحفاده، لكني هرولت إليه فكرًا، فإذا أنا أطوف حوله سبعًا، تسعًا، آلافًا تطويها آلاف، ألتقط من غوره فكرًا، ينثرني في السماء، كطير يلتقط الحَب، ويرحل حيث جاء.
كانت البداية حين وُلدت أختي الصغيرة «السماء» في يوم الثلاثاء، ثم حين درستني سميرة بلسود ترمَين على التوالي، وكانت محاضرتها في كلا الترمَين يوم الثلاثاء، وفي هذا اليوم كانت محاضرة فاطمة الوهيبي، وفي الترم اللاحق من ترم الوهيبي كانت محاضرة بسمة عروس يوم الثلاثاء؛ فسميته «اليوم السماوي».
كان الترم الذي درستني به بسمة عروس رتيبًا، كئيبًا، دفينًا، إلا منها. كانت كل أيام الأسبوع في كل شهر من هذا الترم هالة سوداء، ويوم الثلاثاء لحظة انبلاج الفجر. كنت أربط يوم الثلاثاء في حبل من فوق، وأسند قدمي على متكئ أمامي، ثم أسحب الحبل حيث يجيء الثلاثاء متجاوزًا أيام الأسبوع آتيًا إليّ. لقد كانت محاضراتها الحياة الوحيدة في ذلك الترم المميت. هنأتُها في رأس السنة من هذا العام 2020، وقالت من ضمن ما قالت: «الأيام تأتينا لا نأتيها». من حينها وأنا أرى الحياة تأتيني من الأمام، من المستقبل!
وفي لحظة ارتسم إليّ وجهها دليلاً في غمرة بحثي عن إجابة، فما وجدتني إلا أقول: بسمة عروس كناية عن العلم الحقيقي.
لطالما آمنتُ بأن الله لا يعرِّف الناس بالناس عبثًا؛ وعلى ذلك فحتى أولئك الذين نفترق معهم ثمة ما تعلمناه منهم، وتعلموه منا. ومن إيماني بهذا المعتقد آمنتُ بأن معرفتي لمنال المحيميد بالرغم من أنها لم تدرِّسني لم تكن عبثًا. المرحلة التي تعرفتُ بها على المحيميد مرحلة صلبة من حياتي، ومعرفتها نبتة رقيقة، أينعت من قلب الصلابة! منال المحيميد غيمة من بياض، تنهمر ماء صافيًا حيث تحل. كما أن أحدكم يرى نور الشمس من نافذة في غرفة في الجوار، فإني أرى النور الذي يأتي بمقدم المحيميد قبل أن تصل المكان. ذوقها مخلوق من الجمال، ذوقها جمال في الكلام، الملبس، الصحبة، التفكير، بل إنها هي الجمال، وكل جمال في الكون امتدادٌ منها. وأذكر أني مرة قلت: القلب الذي يحب منال المحيميد لا يتحلل جثمانه في القبر!
في صيف 2019 التقيت طالبتي بشائر حمادي، التي سميتها «البِشْر». وفيما هي تحدثني عن شؤون هذه الحياة أعطيها من تجربتي النصائح، التي كانت أكثر ما تكون مما تفكرت به من صحبة أساتذتي، محيلة كل قول إلى قائله من أساتذتي؛ فقالت لي: «أغبطك على هذه الصحبة». وصدقت القول؛ فإن صحبة العلماء غبطة، ما خاب من صاحبهم.
الحق، إني في رحلة صحبة العلماء في هذا المكتوب توخيتُ الترتيب الذي عرفتهم فيه بحياتي؛ وعلى ذلك فإني أصل الآن إلى مسك الختام مع مشرفتي على رسالة الماجستير «منيرة الزهراني». وصلتُ إليها وقد أتعبني الكفاح، وحططت رحلي مستسلمة من حرب السنين. أتيتها وبقدر ما أنا متفائلة بقدر ما أنا مشحونة من الكلام المتداول عادة عن دكتاتورية المشرف؛ فإذا بها مرسول جاء بها ليخبرني أن من كل شيء في الحياة يوجد ضده. وجدتها نظامية، مهنية، مرتبة، أمينة، مخلصة، محترمة، عادلة، نظيفة العمل. كانت مريحة، تشبه حقلاً ريفيًّا، ينساب به الهواء محرك القمح على هون. كانت تشبه صفحة ماء صافٍ، تشبه عصر يوم في صحبة الأهل مجتمعين حول القهوة والشاي، تشبه الصباح، كانت واحة من الراحة، شمعة منيرة في ظلمة التيه.
في ليلة شاتية من ليالي ديسمبر 2019، فيما أنا في حجرتي، جنبي مدفأتي، وعلى طاولتي القهوة، والسيدة أم كلثوم تملأ الوحدة بأجوبتها في أغانيها على أسئلة القلب الجريح، حينًا، وحينا يجيب عن الأسئلة عبد الحليم حافظ. وفيما أنا ذاك كنت أتأمل كتب أساتذتي على مكتبتي التي أمامي، فقلتُ: الأستاذ لا يموت؛ إنه نور يضيء الحياة، وبعد الممات.
** **
- سراب الصبيح
sarabalwibari@gmail.com