في حالٍ من العجلة والاستنفار أزمع «المجمع المسكوني الفيروسي» على عقد جلسةٍ طارئة لمحاكمة شابٍّ يعمل في أحد الأبرشيات الفيروسية، كان قد أعلن تمرده على تعليمات الأبرشية ورفضه للتبعية والخدمة العامة، مدعياً اكتشافه الانتماء لسلالةٍ ملكية عريقة تمنحه الحق في موقعٍ أعلى ومكانةٍ أرفع.
جاء هذا التطور عندما استشعر الفتى الفيروسي أن رأسه يعلوه شكلٌ تاجي له أهدابٌ براقة، حتى أصبح أقرانه وزوّار الأبرشية ينعتونه بلقب «الفتى المتوّج».
وخلال أيام قليلة تم استجوابه في المجمع المسكوني من قِبل حشدٍ من الكرادلة والأساقفة ذوي الماضي الوبائي الوبيل، وجرى إصدار قرار «الحرمان الفيروسي» عليه، ونفيه من سلك الكهنوتية الفيروسية إلى الأبد.
مضى الفتى إلى كوخٍ مهجور في أحد الأجساد البشرية، وأخذ يفكر في مستقبله، وبطريقةٍ تجعله يقلب الطاولة على «الأكليروس الفيروسي» وعلى العالم المسكون بأكمله. وسرعان ما اكتشف أن لديه مواهب لا تتوفر لغيره، منها أن أهداب تاجه تمنحه مهارة في الأداء، ومنها قدرته على الاختباء فترة طويلة تساعده على الانتشار، فضلاً عن كمية الرعب التي يزرعها في ضحاياه إلى حدّ تعطيل حركة الأحياء.
قرر الفتى «ذو التاج» أن يبدأ فوراً في ممارسة دوره وإثبات تفوّقه، واختار أن يعطي مصداقية لأصله الملكي، بأن تكون أولى ضرباته في موقعٍ جغرافيٍ يتنكّر للأصالة الملكية، ويدين بمشاعية سياسية لا يرتضيها، كما يتميز بقدرٍ من الكثافة البشرية والغزارة الإنتاجية. وهكذا أثخن في أبرز مسرحٍ صناعيٍ في الصين، وقلَب الدنيا رأساً على عقب، وجعل من ضربته حدثاً مدوياً أثار الهلع في كل مكان.
لم تمض أسابيع معدودة حتى اكتشف خطل تخميناته، وتبيّن له أن إنهاء المَلكية في الصين جاء بفعل التدخلات الاستعمارية، وأن الماوية الثورية كانت تستهدف إنقاذ البلاد من الهيمنة الأجنبية، ولاحظ أن الحكومة القائمة هي أقرب إلى المَلكية الراسخة، وأن الرئيس يتمتع بالبقاء مدى الحياة. عندها نزع مخالبه التاجية ونادى أعوانه محلقاً جهة الشرق تاركاً الصين تتعافى تدريجياً بنهجها الصارم.
كانت كوريا ذات الماضي الثوري محطةً عابرة، لم تهضم الدرس من جارتها، فاستباحها سريعاً دون أن يتوقف طويلاً، وعندما أطلّ على الجزر اليابانية أسَرته تلك النظرة الشفيفة والابتسامة الواثقة للإمبراطور الأب، المتنحي حديثاً عن العرش، فرجع ناكصاً عن مهمته، تاركاً لغباره المتناثر أن يفعل في بعض المتأرجحين ما فعله في كوريا المراهقة.
أين يمضي هذا المغامر «المتوّج»؟، إن همّته تبدو طموحة، وروحه الثأرية لا حدود لتعطّشها،وها هو يعبر جبال الهملايا، وتنبسط أمامه القارة الهندية بأكملها. يا لها من صيدٍ ثمين، ويا لثارات الملوك الغابرين، لكنه يتفاجأ بلامبالاةٍ مربكة، وبحشودٍ تملأ البيوت والساحات والطرقات، وبروائح البهارات والفلفل النفاذ تملأ الأجواء، فلا موطئ لقدم، ولا فرصة لأهدابه التاجية كي تنغرس في خليّةٍ لا تغمرها الأبخرة الحارة. وبعد نوبةٍ من العطاس الشديد، أخذ يلمّ شتات أعوانه وينطلق مُستقبِلاً هواء الهضبة الإيرانية الربيعي، فهناك يكمن ثأرٌ آخر.
وقف الفتي التاجي متمهلاً، فقد رأى لا مبالاةً طاغية، كما لاحظ أن أهمية المواقع تكمن حيث يتحرك أولئك الذين يعلو رؤوسهم ما يشبه التيجان، ثم أخذ يضرب ضرباتٍ سريعة لاستثارة الانتباه، إلا أن التجاهل وعدم المبالاة كانا السلوك الأعم. عندها أصبح ذو التاج يماشي الحالة السائدة، ويقوم بوظيفته تبعاً للمزاج العام، فمرةً يختبئ بالملابس الداخلية للخميني، والتي يُطاف بها على الناس للاستشفاء والتبرك، وتارة يضطجع في القيلولة على أحد الأضرحة حيث يلثمه الناس ويتمسحون به، وهكذا يأتيه الناس زرافاتٍ ووحدانًا دون أن يتكلف البحث عنهم.
لقد أتاح له هذا الاسترخاء فرصة التفكير العميق، فقد أدرك أخيراً أن ثأره للشاهنشاهية الفارطة لا يستند لأساس قوي، فالشاه المخلوع لم يكن سليل أسرة ملكية، وإنما كان ابناً لضابطٍ في الجيش القاجاري، استطاع انتزاع السلطة بمساندةٍ إنجليزية، وتم تتويجه لاحقاً على عرش إيران بمسمى الشاهنشاه. لكن ما عجّل برحيل الفيروس المتوج، هو شعوره بتسرب الأضرار إلى دول الجوار، وهو ما لم يكن ضمن حساباته الثأرية، فجمع أطراف رِدائه ذات قيلولةٍ حافلة في أحد الأضرحة المقدسة وشق طريقه غرباً باتجاه القارة السمراء.
** **
- عبدالرحمن الصالح