د. علي بن فايز الجحني
إنَّ الناظر في الأدبيات التي تعنى بالعمل التطوعي يجد أن هناك نظريات عديدة وظَّفها المتخصصون لتفسير ظاهرة العمل التطوعي، منها: النظرية التبادلية، والنظرية البنائية، والدور، ونظرية سلم الحاجات عند «ماسلو» وغيرها التي تعزز قيم الشراكة المجتمعية والثقة المتبادلة، وتعمل على تعزيز الانتماء، والمواطنة، والتعاون والاحتساب.
إن المثقف وأمام منظومة كبيرة، وشبكة من التداخلات والعلاقات في محيطه إنما يمثل مجموعة من الأبعاد مثل: علاقة المثقف العربي بالسلطة، وعلاقته بالجمهور، وعلاقته بالقضايا اليومية للمجتمع، والقضايا الطارئة، على أن أهم وظيفة يمكن أن يقوم بها المثقف في إطار إسهامه في تنمية العمل التطوعي في المجتمع هي: توعية أفراد المجتمع وتنويرهم، والتفاعل مع قضاياهم، وابتكار حلول للتعامل معها، وتكوين العقل النقدي في إطار الثوابت، والعمل على ترشيد الاستفادة من التجارب التطوعية العالمية، والنزول إلى ساحات العمل التطوعي بالفكر والممارسة.
والحق أن أهل الاختصاص يتفقون على أن ميادين العمل التطوعي واسعة، وتتسع باتساع احتياجات الإنسان، وفي جميع المجالات والمظاهر التي منها: الإرشاد والتوعية الدينية، والتعليم المجاني والتكافل الاجتماعي، ومساعدة الفقراء والمساكين والمحتاجين، وتلبية مستلزماتهم الأساسية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومنكح، والتطوع في مجالات التبرع بالأعضاء لإنقاذ حياة المرضى والمحتاجين، والإسهام في جميع مجالات التثقيف والتوعية الصحية، كما أن الحفاظ على البيئة من التلوث بمختلف أشكاله مجال آخر للتطوع؛ نظرًا لتفاقم المشكلات البيئية التي باتت تهدد العالم كله بكوارث ماحقة نتيجة للاعتداءات الجائرة والتجاوزات الفادحة على البيئة الطبيعية، وتلويث البحر والبر والجو، والهواء والماء والأكل، وهناك مجال آخر مهم من مجالات العمل التطوعي هو مجال إصلاح ذات البين وحماية الحقوق العامة والخاصة من التعدي والإهدار، وإصلاح ذات البين في كل المجالات، وهذا المجال على وجه الخصوص مجال واسع لم يعط حقه من الاهتمام في المجتمعات الإسلامية. وبمعنى آخر فإن خارطة العمل التطوعي وما يتضمنه من مفاهيم وقيم وتضحيات يتسع رأسيًا وأفقيًا ليشمل المجالات النافعة والمفيدة كافة مثل: التبرعات، والشفاعات المشروعة، وتقديم الرأي والبحوث والدراسات والإحصاءات، والخطط النافعة، وإنشاء المكتبات والكراسي، والمدارس والجامعات، والمستشفيات، والجوائز، وسائر الأعمال النافعة التي تسهم في الأعمال التطوعية، وتدفع عجلة التطور الاجتماعي والتنموي.
إن رسالة المثقف تمتد طولًا وعرضًا إلى التنوير بأهمية المحافظة على المنجزات والمكتسبات والمنشآت السياحية والتربوية والرياضية والحضارية، بيد أن للمثقف المتطوع دورًا بالغ الأهمية في الإسهام في تحقيق الأمن للمجتمع بمفهومه الشامل، عن طريق التنوير بالتدابير الوقائية والعلاجية من الجرائم والانحرافات الفكرية، وتعزيز قيم الشراكة المجتمعية في الرعاية اللاحقة لذوي الانحرافات الفكرية، وتنمية الوعي المجتمعي بمتطلبات الأمن الفكري، وإعلاء ثقافة العمل التطوعي في المجتمع.
على أنه في كل الأحوال لا بد من توفير المظلة الحكومية التي ترعى العمل التطوعي ومبادراته، وأيضًا تكثيف الحملات التوعوية بأهمية العمل التطوعي في جميع مراحل التعليم العام: المرحلة الابتدائية، والمتوسطة، والثانوية؛ لأن الشباب على عواتقهم الإسهام في تحقيق رؤية 2030م، ونهضة الأمة، واستحداث برامج وأنشطة تطوعية يكون المجتمع في أمس الحاجة إليها، مثل: رعاية الموهوبين والمخترعين، والمتفوقين دراسيًا، ودعم المؤلفين وطباعة كتبهم، وتعليم اللغات واحتياجات سوق العمل، وتكريم الرواد في جميع المجالات التي تشتد الحاجات التنموية إليها.
إن الوطن ليس كلمة نتغنى بها، وإنما هو دم يسير في عروق أبنائه، كما أن بناء الأوطان ليس كهدمها، لقد قضت المملكة عقودًا وعقودًا في البناء والتحديث، فعلى المثقف أن يسهم بقلمه ولسانه ومواهبه في تعزيز الأعمال التطوعية التي تسهم في ترسيخ الوطنية، وتعزيز الوحدة الوطنية، وأن يجعل الأمن الفكري جزءًا من مشروعه الثقافي التطوعي.
إن أي باحث في واقع العمل التطوعي في العالم العربي عامة يصاب بالذهول والدهشة للتعثر الواضح الذي يعانيه العمل التطوعي ومردوده المحدود، وأيما كانت ميادين العمل التطوعي فإن المعوقات تتنوع منها: ما يرجع إلى ثقافة المتطوع وتعليمه وخبراته وظروفه الشخصية، ومنها طغيان البيروقراطية وتضاريس العمل الإداري المعقدة في بعض الجهات، ومنها ما يرجع إلى العادات والتقاليد والتربية، على أن القاسم المشترك بين كل هذه المعوقات يدور حول: تدني ثقافة العمل التطوعي، والشفافية، وانفراد بعض أصحاب الخبرات بالأعمال التطوعية، والتردد في إعطاء الشباب فرصة لتعلم واكتساب مهارات العمل التطوعي من قبل البعض. وهناك ضعف الشفافية، وبروز التصنيفات الفكرية لدى العاملين في مجالاته، ناهيك عن غياب التخطيط الإستراتيجي، والتفاعل والمشاركة المجتمعية ومصادرة الآراء، على أن المعضلة الكبرى تكمن في التضييق والإقصاء للكفاءات الشابة المتطلعة للإسهام في العمل التطوعي بسبب سياسة البعض في الهيمنة والاستبداد بالأعمال التطوعية، وغياب الحوار والشفافية، وطغيان - لدى البعض- سياسة {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
إن أسمى الأعمال التطوعية هي أن يهب الإنسان من نفسه ووقته وجهده وماله لخدمة الآخر دون مقابل، والأسمى من ذلك عندما يوفقه الله إلى إدخال السرور على الآخرين، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. وقال صلوات ربي وسلامه عليه وهو يبيِّنُ فضل ذلك لما سئل: «أي الأعمال أفضل؟ «قال: «إدخالك السرور على مؤمن» ولما سُئِل بعضُ الصحابة: «ما بقيَ من لذاتك في الدنيا؟ قال: «إدخالُ السرورِ على الإخوان.»
وقال الإمام مالك -رحمه الله- لما سئل: «أي الأعمال تحب؟» قال: «إدخال السرور على المسلمين»، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحَرص على أن يكون المرء مُدخِلًا للسرور على قلوب إخوانه المسلمين؛ لأن هذا يزيد الفضل والأجر والإحسان، ويرسخ التعاون على البر والتقوى، ويعزز الأمن الفكري لدى أبناء المجتمع.
لا شك أن الإسلام حثَّ على العمل التطوعي وترسيخ ثقافته، ولكن واقع الحال في المجتمعات العربية والإسلامية -للأسف- يشير إلى النقص في هذا المجال، خاصة في صفوف المثقفين والشباب.
إن العمل التطوعي نفسه يدعم مقاصد الأمن الفكري من حيث إنه يجعل الفرد يكتسب الكثير من الخبرات الإيجابية والمهارات التي تساعده في حياته، ويقضي على الفراغ الذي كان من جملة الأسباب التي تدفع بعض ناقصي المناعة للوقوع في مزالق الانحرافات الفكرية والإرهاب؛ إذ إن التطوع نشاط عام يسهم في التنمية في المجتمع، ويساعد المتطوع على تحقيق أفضل استفادة من وقت فراغه، ويحقق نسبة عالية من إجراءات الحد من المشكلات التي تؤثر على المجتمع تأثيرًا سلبيًا، وينمي «الخيرية والاستقامة» والتواصل المفيد مع الآخرين.
من هنا يظل المثقف يحمل رسالة التنوير والتبصير بهذه المقاصد، والتشجيع على الأعمال التطوعية، وتبصير أفراد المجتمع على أن يبدأ بنفسه، من خلال المشاركات والمبادرات التطوعية، ولا يكفي الوصف والتنظير كما يعمل -للأسف- بعض المثقفين، وإنما الواجب الانضمام إلى ميادين الأعمال التطوعية والخيرية في المجتمع حتى لا تخرج الأعمال التطوعية عن مسارها إلى مسارات أخرى؛ مثل: طلب الشهرة، أو أي سلوكيات منحرفة تهدد الأمن وقيم المجتمع.
إن على المثقف ترشيد المسار، عبر وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، تنويرًا وتشجيعًا وتبصيرًا، لأن الكلمة ستظل دائمًا المحرك الأقوى في نجاحات التطوع في مجالاته كافة، قال صلى الله عليه وسلم: «إنّ العبدَ لَيَتَكلَّمُ بالكلمةِ من رضوانِ اللهِ لا يُلقِي لها بالًا يرْفعه الله بها درجات، وإن العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ منْ سَخَطِ اللهِ لا يُلْقي لها بَالًا يهْوِي بها في جَهَنَّم» أخرجه البخاري.