د. محمد عبدالله العوين
مع ظروف الحظر للوقاية من كورونا اختلفت أساليب التعامل مع أدوات التواصل الاجتماعي؛ وعلى الأخص منها التطبيق الأشهر (تويتر) فازداد الإقبال على التغريد بصورة ملحوظة عن الماضي من خلال استعراضه بالصور أو الذكريات، ولعل تركيز قنوات التلفزيون في نشراتها وبرامجها ومراسليها على الفيروس طوال معظم ساعات البث دفع بكثيرين من المشاهدين إلى الانصراف عن متابعة تطورات المرض إلى البحث عن المسليات للهروب من الضغط النفسي؛ فازداد الإقبال على برامج التسلية والألعاب عن طريق الإنترنت، وربما فطن من لديه نباهة إلى كمية الضجر التي تبثها المحطات في وجدان متلقيها ففكر في إثارة مشاعر الحنين إلى الماضي والانفصال عن الهواجس المقلقة من التقاط الفيروس مع كل لحظة اختلاط بالبشر.
فكان بث قناة (ذكريات) نوعاً من الهروب بالمشاهدين من الحاضر إلى الماضي، وروشتة خفيفة لم تكلّف كثيراً في وصفتها لبناء جدار عازل طويل عن متابعة الواقع المهيمن عليه إعلامياً بخبر واحد والهروب منه إلى الذاكرة التي تحن دائماً إلى الزمن الفائت؛ لتعيش تفاصيل أيام وليالي بث تلك المسلسلات أو البرامج أو الحوارات أو الأغاني وما واكبها من مشاعر وأحداث وعلاقات وزيارات وتواصل ومناسبات وأفراح، وكأن القناة لا تعرض برامج الماضي فقط؛ بل تسرد معها الذكريات الشخصية لكل مشاهد إبان البث الأول لتلك البرامج.
والحق أن المشاهد لا يتابع البرنامج حين يعاد عرضه ثانية في قناة (ذكريات)، بل يتابع معه شريط ذكرياته هو حين كان يتابعه لحظة عرضه أول مرة في القناة؛ سواء كان برنامج مسابقات كبنك المعلومات الذي يستعيد بعرضه الآن من جديد مسنون أعمارهم تتجاوز الستين أو تقترب من السبعين وكانوا حين شاركوا في البرنامج في العشرينيات من أعمارهم، والمشاهد أيضاً لا يرى المسلسل القديم قبل أربعين عاماً كشمعة تحترق، أو أصابع الزمن، أو الأغنية غير الملونة لطلال مداح أو محمد عبده أو فوزي محسون أو أم كلثوم أو عبد الحليم حافظ؛ بل يستعيد الحالة النفسية والاجتماعية والمحيط الأسري الذي كان يعيشه وتفاصيل ما كان يحلم أو يفكر فيه حينذاك قبل أربعة أو خمسة عقود من الزمن.
العودة إلى الماضي من خلال صور قديمة أو برامج وثائقية عن أحداث تاريخية أو سياسية مرت أو أغنيات أو مسلسلات تعني في حقيقتها أن الماضي مهما كان بسيطاً متواضع الأدوات قليل المال إلا أن قيمته تكمن في اليقين بأنه الجزء الأغلى والأنفس الذي ولى ولن يعود، فرؤية ما يذكر به تجدده وتستعيده ولو من باب الوهم والخيال.
ولعلها فرصة سانحة لاستغلال فترة الحظر باختيار الأجود والأكثر تميزاً من المواد التي تكتنز بها مكتبة التلفزيون، فيتم التنويع في الاختيار بين التسلية والحوار والدراما والأغنية.
ولا شك أن الاختيار ينم عن ثقافة قوية بتاريخ التلفزيون وما بث أو أنتج من برامج خلال تاريخه الطويل، ويدل أيضاً على وعي ثقافي وفني كبير بما شد الأجيال السابقة وأثر فيها من مواد تلفزيونية.
إطلاق القناة في هذا الظرف الصحي الحرج للعالم بسبب كورونا ضربة معلم من هيئة الإذاعة والتلفزيون.