د. محمد عبدالله الخازم
فاجأني أبنائي بأن ذكرى يوم مولدي اقتربت وستكون في شهر رمضان، فلِمَ لا نتذكره مبكراً قبل الشهر الكريم. هذا العام تعود الذكرى السنوية ونحن في عزلة تخف حدتها بالتواصل عن بعد مع العالم. لا أعتقد أن فكرة الأبناء وتذكرهم مبكراً مرده قدوم الشهر الفضيل، فليس هناك ما يمنع تذكره وربما الاحتفاء به في ليالي رمضان، لكنه مؤشر الحاجة إلى احتفال ما، بهجة ما، كيكة ما، هدية ما... هذا ما تقوله أوقات كورونا الفارغة من فعل شيء ولا شيء!
يبدو أن أزمة العصر الراهنة تشعرنا بالوحدة لأننا أصبحنا نعيش فرادى أو عوائل منعزلين عن العالم حضورياً. وأضع الأمر احتمالاً لأنه ربما كانت الوحدة طابعنا والأزمة قادتنا إلى تأمل تفاصيلها عن قرب. ربما شباك العزلة القسرية للجموع يقودهم إلى إدراك عزلة الفرد ووحدته التي سبقت الأزمة وستتلوا الأزمة. لم أتعود بهجة ذكريات تاريخ مولدي في الصغر لأنني لم أكن أعرف معناه، وفي الكبر لا أحد يهتم بالأمر سوى المقربين كالأبناء والأصدقاء. يبدو أن مثل ذلك لم يخلق لنا في الصغر لأننا لم نُترك للعزلة، في عوائل كبرى وشقاء دنيوي تكون سعيداً خلالها لو تركت ساعة لتنام أو لتذاكر بعيداً عنهم. أما الآن فنحتاجه ونشكر من يخرجنا من وحدتنا ولو لساعة من زمن. تأتي هذه الذكريات لمحاربة إحساس الوحدة، وبالتالي هي جلسات علاج أنيسه تذكيرية بأننا كائنات اجتماعية في الأساس. ألم يصف شارلز داروون قبل قرن ونصف القرود بأنها كائنات اجتماعية وسلوك الإنسان مثلها، يصاب القرد بالألم والحزن لفراق رفقائه ويعيش منكسر القلب والفؤاد؟
خبراء علم النفس الاجتماعي لديهم مقياس، وكما هي مقاييسهم مليئة بالأسئلة، يقيس شعور الوحدة وإن لم تخني الذاكرة فهم يشيرون إلى وجود واحد ضمن كل أربعة أشخاص على الأقل يعاني الوحدة. هذا في بلادهم وبعضهم وصفها بالوباء كما فعل بوصف السمنة. أين ذهب بي المقال؛ لا تعكروا مزاجي بالحديث عن السمنة فالمثل المحلي يقول «رجل من غير كرش لا يسوى قرش». نعود إلى عزلتنا التي فرضتها جائحة كورونا؛ وضيقت ذكريات كان مقررًا فيها حفلات/ جلسات بهيجة للإنعاش من شعور الوحدة.
بعض الأدباء والكتاب يتغنون بالبحث عن العزلة ويرونها شرطًا للإبداع، وقد يكون الأسلم الاصطفاف معهم بعيداً عن هؤلاء الصحيين الذين يرون خلف شعور الوحدة ومن تحتها مشكلات إحباط أو اكتئاب أو خجل أو رهاب اجتماعي. فيروس كورونا يختبر الطرفين؛ هذه الوحدة تُفرض عليكم فلنرى إنتاجكم أيها المثقفون وفي النقيض لنرى أعداد زوار العيادات النفسية بعد انقضاء الجائحة. أما أنا ومع الاقتراب من عمر تجاوزت سنته الخمسين فقد تعلمت البقاء في منطقة الـ «ما بين بين» ما بين استمراري ككائن اجتماعي وما بين وحدتي، رفيقتي في دروب الحياة!
شكراً لمن تذكر وذكرني بمولدي وعمري. شكراً للقراء على تحملهم مقالاتي، غثها وسمينها. سيبدأ رمضان وبعد استئذان أستاذنا رئيس التحرير سيكون الشهر إجازة من كتابة المقالة. نلقاكم بعد رمضان وكل عام وأنتم بخير.