د.فوزية أبو خالد
لابد بداية من أن أقول كلمة أشعر بأنها عالقة في حلقي أو معلقة بين حبالي الصوتية، تجرحني كلما قرأت أعداد الموتى الذين تجتثهم الجائحة ممن يذهبون إلى نهايتهم غرباء دون قبلة أخيرة ولا تلويحة وداع, وكلما مرّ يوم آخر من القلق المبرح في انتظار معجزة ربانية تكتب للعالم الشفاء من هشاشته البشرية على يد البحث العلمي الطبي باكتشاف لقاح أو علاج.
* * * * *
وبناءً على هذه القدرة المناعية للمقاومة التي يجدها الباحث في تاريخ الشعوب من عمر العمران البشري، كما يجدها في التاريخ الشخصي للبشر من الأنبياء والعلماء والعباقرة إلى العمال والكُتاب والشعراء والمناضلين، فقد آليت على نفسي منذ أدى بي مطاف هذه الجائحة لأكون في أمريكا الشمالية، بعيداً عن أرضي، أن تكون كتابتي تعبيراً عن إرادة الحياة لنفسي ولأسرتي ولوطني وللعالم، عن طريق المقاومة بالكتابة.
* * * * *
ومن عبر العزلة -إن صح التعبير- إلى جانب عبرة التفكر في داخلنا وفيما حولنا، هي عبرة أهمية المقاومة الفردية بما لا يقل عن أهمية المقاومة الجماعية، بل ويعززها بإعادة الاعتبار لتلك العلاقة الجدلية الضائعة بين الذات الفردية والذات الاجتماعية، فيصبح الفرد ليس بعضاً في جماعة أولية وليس رقماً في «مجتمع مركب»، بل إنساناً له شخصية اعتبارية، تتوقف على مواقفه وسلوكه وضميره الفردي والعام سلامةُ المجتمع المحلي والمجتمع العالمي بأسره.
ولقد اكتشف مشترك واسع من الملح والحبر لهذه الرسالة؛ رسالة مقاومة الجائحة بين العالم وبيني، فيما لا يحصى من الملامح اليومية البسيطة.
* جارتي دينيس مُدرسة البيانو التي تصحو من الفجر فتسقي أصص الزرع على شرفتها, تلعب تمارين اليوجا برشاقة فتاة في العشرين، مع أنها من «الفئة العمرية المرشحة للجائحة»، ثم لا تنسى أن ترسل قبلات في الهواء لشبابيك الجيران المغلقة والمفتوحة معاً.
* تلك الزميلة الأكاديمية التي تكتب من جامعة برستول ببريطانيا بشجن عميق عن الكيفية التي غيّرت فيها الجائحة طقوس الحزن Lucy Selman, How covid19 has transformed the grieving process.
* الكاتبة الهندية أروندهتي روى وهي تعزف في كتابة تحليلية نازفة عن مأساوية الجائحة في بلادها بمركب الهند الطبقي والديني والاقتصادي والجغرافي المعقد فتقول «من منا بوسعه النظر إلى أي شيء؛ الخضروات، مقبض الباب, قرطاس المقاضي، ولا يتخيل تلك الكرات الخفية توشك الانقضاض علينا، ومن منا بوسعه ألا يفتتن بازدياد تغريد العصافير على الشجر وبنقاء الغيوم من العوادم.. الرأسمالية بجبروتها تهتز معادلتها فمرض فرد فقير بفيروس كورونا قد يقوض صحة أغنياء المجتمع، بل آلة المجتمع بكل براغيها.
* السندرا مينيلو Elessandra Minello وهي تقوم بعملها الأكاديمي من البيت فتكتب على إيقاع صوت طفلها ورقة عن عمل المرأة الأكاديمي خلال الجائحة في محاولة لأن تسجل عورات التمايزات الطبقية والإثنية التي تكشفها الجائحة، خاصة التمايز الجندري ساعات نوم أقل وساعات عمل مضاعفة وتهديد أكبر بفقدان الضيفة.
* أمثلة بلا عدد لتلك المقاومة، ريمون الذي يلبس أكياس الزبالة، أجل أكياس الزبالة، ويصنع كمامة من فوط أطفاله المعقمة ليوصل حاجات أساسية لسكان الحي ممن لا تسعفهم صحتهم للخروج أو لمن يعيشون في حصار طويل من شتاء العمر القارس خلف جدران خانقة.
* ذلك الشاب الأبنوسي الذي يقطع من مدخراته القليلة ويوزع يومياً وجبات على من لا بيوت لهم من مشردي حي الملكة بنيويورك الذاهلين عن أنفسهم ممن يأخذون فيه روحاً ليتساءلوا عن سبب إغلاق المدينة وفراغ الشوارع. فيكون رده المذهل «إنها حالة مؤقتة لمقاومة فيروس مجهول قاتل اسمه كورونا».
* تلك الممرضة التي انتشرت صورتها عبر الواتساب وهي تضحي بحياتها لتنقذ مريضاً، تلك حالة مقاومة فردية لجائحة جماعية. وهناك عدد متنوع من أفعال المقاومة للجائحة، وإن جاء بعضها متجسداً أو رمزياً.
* د. فهد العرابي الحارثي وهو يبتكر عبر حسابه الشخصي بتويتر وعبر سناب شات وبنشاط أسبار وبالذكريات الصحفية واللوحات التشكيلية، ورشة صغيرة للمقاومة.
* د. منيرة الغدير وهي تفتح نافذة المنتبذ القصي على مداها نحو شعر العزلة في الأدب الأمريكي والإنجليزي وترسله عبر القارات لأرض الوطن بالذات.
* سعد الدوسري وهو يبادر، وميسون أبو بكر، ومنى أبو سليمان، وليلى الأحيدب، وهدى الدغفق، وأحمد الملا، وهم يقاومون الجائحة بمحو كلمات شفيفة.
* هناك المقاومون بالصدقة، وهناك المقاومون بالدعاء.
* وهناك المقاومون بالقراءة، وهناك المقاومون بالتأمل، وهناك المقاومون بالإخلاص في العمل والتعلم، وإن عن بُعد، وهناك المقاومون بمراجعة الذات.
* وهناك المقاومون بقرارات استباقية ذكية وبالحملات التفتيشية في العشوائيات وبحق العلاج حتى للمخالفين، وبالجرأة على الإصلاح في موقف الدولة المتقدم القائم المأمول والموئل في كل حين.
* * * * *
تتيح لي العزلة وقتاً لم تكن انشغالاتي ومواعيدي بين العمل والمشفى -سابقاً- تسمح به لأتابع عبر التلفزيون ما يمكن أن أستعير تسميته من جمعية علم الاجتماع الأمريكية العتيدة بـ(Politics of Covid19)، سياسة كوفيد19.
فأرقب ذلك الشد والجذب السياسي في المؤتمرات الصحفية اليومية الذي لا يخلو من المكر الميكافلي في العلاقة بين الرئيس الأمريكي وبين حكام الولايات ورؤساء البلديات. فمن رئيس أربكته الجائحة وحولت «بلاده العظمى» إلى ساحة سؤال مفتوح على مصير النظام الرأسمالي برمته، دون أن يستطيع التفريط في المكابرة وصب جلّ اهتمامه على تسريع إعادة تدوير عجلة الاقتصاد، بغض النظر عن مخاطره الصحية الجسيمة، وعينه ليست إلا على الانتخابات القادمة إلى حاكم نيويورك أندريه كومو الذي لا تعفيه كارزميته وليبراليته وموقفه الشجاع في وجه الرئيس بعدم المخاطرة بحياة النيويوركيون لصالح تسريع فتح الأسواق، من مسؤوليته عن التباطؤ الشديد في إغلاق نيويورك في وجه الجائحة إلى منتصف مارس.
* * * * *
لا أستطيع أن أرقب العمال وهم يبنون المشافي السريعة المؤقتة من الخيام، نعم من الخيام، في ملاعب التنس، وفي قلب السنترال بارك تلك الغابة الغناء التي كانت رئة منهاتن ومنتزهها الإنساني الوحيد وسط غابة الإسمنت من ناطحات السحاب على جادة الشارع الخامس بحياد من يشاهد أحداث فيلم لعصر سابق.. فلا أستطيع أن أبتلع مع ريقي الطُعم القائل بالحلم الأمريكي وأمامي يجري الكابوس الرأسمالي بشحمه ولحمه ومخالبه المقتلعة في يد والقاتلة في اليد الأخرى.
* * * * *
كل يوم منذ بداية العزلة بنيويورك، تمام الساعة السابعة مساء، تصدح من شرفات وشبابيك العمارة التي أقيم بها والعمائر المقابلة والمجاورة ما أسميه موسيقى المقاومة. هناك من يحمل ناقوساً أو جرساً، وهناك من يطرق الأواني، وهناك من يحرك «شخشيخة طفله»، وهناك من يعزف على قيثار أو أكورديون قرب نافذة أو على شرفة أو يطير بالوناً.. أما محمد بن بدر طفلي فيكون جاهزاً بالعلم السعودي، يفتح الشباك ويبدأ بيديه الصغيرتين مع عبدالله وأميرة نور التلويح بالخفاق أخضر وهو يردد النشيد الوطني بلكنة أمريكية واضحة، وذلك شرفه العظيم في مقاومة الجائحة من أرضه للعالم أجمع.