فوزية الجار الله
لكل منا أيام جميلة مضت.. أكاد أجزم بذلك..
تلك الأيام تحمل مواقف وأحداثاً مميزة تسكن الذاكرة تختلف بصماتها في أعماقك، لكنك غالباً تستعذب استعادتها بين الفترة والأخرى..
أجمل ما كان يمتعنا أثناء دراسة اللغة في مدينة شيفلد في «بريطانيا» هي تلك الرحلات الطلابية التي كانت تنطلق بشكل منظَّم وأنيق بما يكفل في النهاية الاستمتاع برحلة ممتعة ومفيدة، كانت تلك الرحلات تنطلق يوم الاثنين من كل أسبوع بين الفترة والأخرى، تبدأ الرحلة في الصباح الباكر، قبل التاسعة صباحاً وتنتهي في الخامسة مساء، في ذلك اليوم انطلقنا إلى موقع سياحي يتضمن عدداً من المواقع التاريخية، أحدها قرية صغيرة كانت ضمن القرى التي ضربها الطاعون في عهود مضت وقد تم تجديدها وإعادة ترميمها في فترة ما وبقيت المنازل كما هي، وقد كُتِب على باب كل منزل أسماء أفراد العائلة التي تسكنه وما الذي حلَّ بهم ومن أصيب منهم ومن بقي، وقد تضمنت تلك المنازل عائلات أصيبت وتوفيت بأكملها.. يومها شعرت بكثير من الانزعاج والكآبة من مشهد تلك القرية، وقد شاركني ذلك الشعور معظم المرافقين، أتذكر أن إحدى الطالبات وقد اصطحبت أطفالها الثلاثة الصغار قالت إنها نادمة على الحضور وليتها لم تفعل وتصطحب الأطفال إلى هذه الأجواء الكئيبة!
وفي نهاية الرحلة وأثناء عبورنا للمتحف ومن ثم المحل الصغير الذي يعرض مقتنيات وهدايا سياحية وجدت كتاباً صغيراً تحت عنوان (الطاعون العظيم/ مذكرات أليس باينتون 1665م - 1666م) يومها عمدت إلى شرائه وتركته لحين تفرّغي لقراءته.. مؤلفة المذكرات فتاة صغيرة تبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً..
وربما تعلمون جميعاً أن عالمنا قد أُصيب بعدد من الأوبئة في قرون مضت وأن لندن كانت من أكثر المدن المتضرِّرة وقد قضى الطاعون الذي سُمي بالطاعون العظيم على أعداد هائلة من البشر هذا عدا الخسائر الاقتصادية والاجتماعية!
عدت إلى تصفّح الكتاب المذكور هذه الأيام، فقد كانت فترة مناسبة جداً لقراءات متنوِّعة ولعلي أتناول شيئاً مما ورد فيه في مقال قادم.
** (منذ اليوم الأول لدخولي إلى السجن، بدأت أحلم بالحرية، ورحت أحصي الأيام التي أقضيها، بشتى الطرق، وتلك هي حال سائر المحكومين، سواء في القسم المدني أو العسكري أو الخاص، وحتى المحكومين بالأشغال الشاقة، لأن الجميع يعتقدون أن وقت الفرج بات قريباً، وإن كانت مدة سجنهم تزيد على العشرين عاماً).
** (وهكذا أحسست أن خير منقذ لي هو العمل الذي يزيد من قوتي الجسدية ويطرد عني الملل والحزن الذي شعرت بهما داخل السجن)..
-من كتاب ذكريات من بيت الموتى/ دوستوفيسكي-