د. خيرية السقاف
يطهِّر الإنسان المدن منها تلك الأليفة التي كانت تحمل أسفاره، وتنقل أمتعته، وتقطع به طرق قوافله، وتحرس نومه، وتوقظ غفلته، وتخوض به معاركه، على اختلاف فصائلها، وأنواعها، وأدوارها، أليفها، وشرسها..
التي توقظه حين يتسلله سارق، وتحرسه وهو في غفلته، أو غفوته، التي تلتهم فائضه، وتؤنس صمت ليله، وتبهج فجر صبحه، التي تسبح كما يسبِّح بما لا يفقه من تسبيحها شيئا!..
هذا الإنسان الفاتك بها، مع أنه قد أفلح في تغييبها عن مدى ممشاه ورؤيته، إلا أنه لمتعته يشرع لها متاجر لبيعها، يقتنيها للترفيه، والتسلية، باختلافها منها في مزارعه، ومنها في بيته، ومنها بين أيدي صغاره، ومنها للحظات ترويحه، وممشاه!..
ولأن لا أجنحة لها تطير بعيداً عن قبضة يديه أسرها، وفعل فأبادها، بما فيها ذوات الأجنحة
إذ لم يدعها طليقة في فضاءاتها، حرة في اتجاهاتها، بل صنع لها الأقفاص، وقيدها فيها لمتعة ناظريه..
كما أسر الدابة منها في أقفاص، وخصص لها حظائر، وأعلى حولها الأسوار..
فعل بهذه الكائنات ما في قدرته في شأن الهيمنة على حريتها، وإقصائها، وإبادتها.. وفق حاجته
هذا الإنسان، إلا قليلاً من بعض أنواعها التي تمرق عن سطوته فتجوب شوارعه ليلاً، وتتسلَّق أسواره في غفلته، وتحتمي عن عينيه من شتاء قارس، أو زمهرير حارق..
ليس جديداً على الإنسان انتهاك الحيوان، وقد عمرت أسفار الرواة في الحديث عن علاقته به، والقص عن بطولاته بها، وتلك الطرائف مع هرة، وديك، وحمار، وبغلة، وثور، أو مشاعره نحو فرسه، وبطولاتهما في مضامير مختلفة، وعلاقاته بكلبه في مساره، ورعيه، وحراسته، وصيده، وكل ما يتعلّق بمنافع هذا الإنسان والحيوان باختلافها من رغبة في ابتهاج، أو انتصار، أو اقتناء، أو متعة، أو تكسب، أو ترويح، أو حتى التهام..!
غابت هذه الكائنات عن فضاء بصر الإنسان في حياته المدنية فارهة البنيان، ممهدة الميدان
حتى جاءت الجائحة، فأعادته لداخل الأسوار، وفي المدن المتحضرة انطلقت بحرية قوافل الحيوان، أسراب الخنازير، والحمير، والكلاب، والخرفان، بل الطيور الماشية من البط الأبيض، ونزلت من فضائها العصافير، والحمام، ونهق الحمار، وماءت القطط، وزأرت الأسود، وانطلقت النمور..
موازنة الطبيعة تجلَّت بمفارقة..
هذا الإنسان من، والكائنات الأخرى فوق الأرض؟!..