د.عبدالله بن موسى الطاير
الرأي العام يحكم على أداء القادة، وعلى الأيديولوجيات الاقتصادية، وعلى البنى التحتية. يحاسب الدول على استثماراتها في تصنيع السلاح، يسأل الدول عن المبالغ التي أنفقت على صحته، ويبحث في أرجاء المدن والقرى عن المستشفيات التي ظهرت قليلة.
تلطخت سمعة الدول العظمى بالفشل، وأصبحت مثار التندر وهي تتنافس على احتكار الأدوية والمستلزمات الطبية، وتدخل في منافسات غير شريفة مع حلفائها، أو تمنع تصدير تلك المستلزمات الضرورية لجيرانها. عرفت الدول المستوردة أنها عالة على غيرها؛ لا تستطيع صناعة كمامات من ورق، أو معقمات من كحول، أو أجهزة تنفس، بينما تصنع دبابات وأسلحة فتاكة. كانت تظن أن العلاقات الدولية من المتانة الأخلاقية بحيث تلتزم الدول باحترام تعهداتها، لكنه خاب ظنها، عندما أوقفت المصانع تصدير المستلزمات المتعاقد عليها بناء على أوامر سيادية.
أدرك الرأي العام أن القوة النووية ومخازن الأسلحة الفتاكة لا تشفي مريضاً ولكنها تقتل سليمًا، وأن صناعة الاستهلاك والترفيه تخلق شهية للحياة والإنفاق تتجاوز بمراحل الإمكانات في الظروف الصعبة كهذا الظرف، وأن الكثير من المنجزات كانت مجرد فقاعات لا تصمد أمام فيروس أغلق العالم وقيد الإنسان وأطلق الحيوان. معظم حسابات القوة والهيمنة والاستعلاء بدت مزورة، وما زعم من قيم الإنسانية والتسامح والإيثار ظهرت على حقيقتها؛ فهي عند السياسيين: «إذا بت ظمآنا فلا نزل القطر».
وزراء الخارجية الذين كانوا يملؤون الإعلام ضجيجاً، هم شبه عاطلين عن العمل، ووزراء الدفاع الذين كانت الأرض تهتز تحت (بساطيرهم) يقبعون في معازلهم يتفرجون على أسلحتهم التي لم تقِهم بأس كورونا، بل وصل لحاملات طائراتهم وسفنهم في عرض المحيطات.
السياسات، والأيديولوجيات، ونظم الحكم، جميعها تختبر، والنتيجة ستنعكس على التماسك المجتمعي العالمي الذي يتعرض لامتحانات قاسية مع مرور الوقت تحت الحصار. وقف الرئيس الفرنسي يخاطب شعبه والعالم بأن هذه الفترة علمته الكثير، وأنه سيتم مراجعة العديد من الحقائق والقناعات. وأن أشياء كثيرة اعتقد أنها مستحيلة الحدوث، تحدث الآن. وعندما يأتي اليوم الذي ينتصر فيه على الوباء فإنه لن يعود إلى اليوم السابق لحدوث الوباء، وأننا «سنكون أقوى أخلاقياً».
التحدي الذي يضعه ماكرون وغيره من قادة العالم في قائمة الأولويات هو منظومة القيم التي اضطربت. ليس فقط بسبب إهمال صحة الإنسان، وتهميش كبار السن وعزلهم بانتظار الموت منذ ما قبل كورونا، ولا بالتصرفات الأنانية التي أظهرتها النخب الحاكمة، وإنما لأن المبادئ الحاكمة للسلطات هي في عيون الشعوب محل شكوك أخلاقية وعليهم مراجعتها.
ويبقى السؤال عن عالم ما بعد كورونا مطروحاً وبقوة، هل تعلم العالم الدرس أم أنه سيعود إلى سالف ممارساته، دولاً وأفراداً؟ طُرح السؤال، في أكثر من وسيلة إعلام، عن النظام العالمي فيما بعد كورونا، وخرجت تصورات بعضها شديد التشاؤم والآخر شديد التفاؤل. لكن الفريقين يتفقان على أن عالم ما بعد كورونا لن يكون كما قبله، ولا أحد يجزم بملامح ذلك النظام القادم.
ما يُخشى منه هو أن تؤدي هذه الفترة من توقف العمل والإنتاج إلى شح في الموارد، لنتذكر أن الحربين الكونيتين السابقتين قامتا بسبب رغبة بعض الدول الاستحواذ على الموارد. فهل ستقود كورونا العالم إلى حرب ثالثة، أم أنها بحد ذاتها هي حرب عالمية ثالثة بدون أسلحة نووية، وسوف تتشكل ملامح النظام الجديد تحت قصف الخوف والفزع والتلاوم.
الذين يستفرغون الجهد في محاربة الوباء ولا يخططون لما بعد كورونا هم الخاسرون حقاً. التراكمات النفسية والإحساس بالعجز، والخذلان، وسقوط الثوابت والقناعات التي سادت منذ الحرب العالمية الثانية كفيلة بأن يقول الناس كلمتهم في شكل المستقبل.