د.عبد الرحمن الحبيب
التغيرات جراء وباء كورونا طالت كل مناحي حياتنا، ومنها نوعية السلع التي نشتريها بعضها جديد تجلب معها سلوكيات جديدة وقد نكتشف أنها مناسبة فتتحول إلى عادة مستمرة، مثل الرياضة المنزلية، وإنجاز أعمال بالمنزل كالخبز والصيانة المنزلية، وتغير بعض العادات الغذائية كالأكل الصحي.. بل قد نكتشف أنها رخيصة ورائعة وسهلة «السهل الممتنع»، كنا غافلين عنها في زحمة الحياة والإعلانات التجارية التي تستنزفنا في الكماليات..
على سبيل المثال، شهدت بريطانيا ارتفاعاً في طلب الطحين، لخبز ما يحتاجونه آلياً بأجهزة التخبيز.. وفي فرنسا لوحظ زيادة الطلب على شراء الأغذية التي لا تستخدم مواد كيميائية لإنتاجها (بي بي سي). وفي أمريكا ارتفعت مبيعات معدات اللياقة البدنية المنزلية بنسبة 170 % في شهر مارس عما كانت عليه العام الماضي..
إذا كانت التجارة الإلكترونية هي أوضح مثال لتغير سلوكيات التسوق، مع تقديرات مبيعات التجزئة عبر الإنترنت التي ستصل إلى 6.5 تريليون دولار بحلول 2023 ، فإن تفشي الوباء قد زادها، حتى أن أكبر بائعي التجزئة بالعالم يلهثون لتلبية الطلب غير المسبوق. فمثلاً، أعلنت أمازون، أكبر بائع تجزئة بالعالم، أنها عاجزة عن مواكبة طلبات المستهلكين؛ وستضطر لتأخير تسليم العناصر غير الأساسية أو عدم تلقيها إطلاقاً (كاتي جونز، Visual Capitalist).
الأمر لا يقتصر على زيادة التسوق عبر الإنترنت، بل تغيرت أيضاً سلوكيات التسوق بشكل ملحوظ، كما توضح إحصائية ضخمة قامت بها شركة Stackline لتحليل مبيعات التجزئة، حددت أهم مئة منتج زادت مبيعاته إلكترونياً، وأهم مئة منتج هبطت مبيعاته، مقارنة بين مارس 2020 ومارس 2019 في أمريكا.
ففي المنتجات الصحية، زادت مبيعات القفازات 670 %، وأدوية الكحة ونزلات البرد 535 %. وفي المنتجات الغذائية، يلاحظ زيادة 386 % للرز والحبوب الجافة، 279 % للحليب والقشدة، 238 % للخضار، 238 % للطحين، 214 % للحبوب، فضلاً عن زيادة الأطعمة المعلبة خاصة الفاكهة. كذلك زادت مبيعات مواد التنظيف والأدوات الصحية المنزلية. بالمقابل، انخفضت مبيعات العديد من السلع مثل الأمتعة وحقائب السفر وملابس السباحة والملابس الرسمية والكاميرات..
هذا كله متوقع وفي الغالب مؤقت، لكن هناك منتجات لها تأثير نوعي في تغير السلوكيات المنزلية مثل الزيادة الضخمة لمبيعات اللياقة البدنية المنزلية ومعدات الرياضة.. فمن أهم الملاحظات هو تركيز العديد من المستهلكين على صحتهم، حيث يمارس 85 % من المستهلكين نوعاً من التمارين الرياضية، فهل سيستمرون؟ 40 % منهم يقولون إنهم ينوون الاستمرار بعد رفع حظر التجول (كاتي جونز). كذلك، زادت مبيعات أجهزة صنع الخبز بنسبة 652 %، مما قد يؤدي لاعتياد تحضير المأكولات الخارجية داخل المنزل.. كما، زاد الطلب على أدوات الكمبيوتر وكراسي المكتب فيما يتطلع فيه الموظفون لإنشاء مكتب منزلي مؤقت، قد يتحول إلى دائم حسب التوسع بالعمل عن بُعد..
هل ستنتهي هذه السلوكيات الجديدة بمجرد انتهاء الأزمة، أم ستظهر أنماط جديدة؟ ببساطة، لا أحد يعرف، فالغموض سيد الموقف، لكن الإجابة لا تعتمد على المستهلكين فقط بل على المنتجين أيضاً، فالسوق عرض وطلب، والشركات تواجه معضلة الإجابة على هذا السؤال.. إنها أمام المجهول!
هذا الغموض سبق للعديد من الشركات الناجحة أن واجهته كما يوضح تقرير لشركة ماكنزي عن التعامل مع المرحلة التالية لوباء كورونا. على سبيل المثال، عام 1980، لم يعلم بيل غيتس أي نظام تشغيل سيسيطر في السوق، لكنه كان يعرف من خلال السيناريوهات التي وضعها أن الحواسيب الشخصية ستكون هي المستقبل وأجهزة الحاسوب ستعمل على واجهة المستخدمين البيانية. كان يتوقع أيضاً أن الفائز «سيلتهم السوق». أدى ذلك إلى اعتماد مايكروسوفت موقفاً واضحاً لمحاولة الفوز بالسباق على أنظمة التشغيل.
يذكر التقرير أن بعض الشركات ستعود بشكلها السابق لكن بسرعات مختلفة (مثل الاتصالات)، بعضها ستحتاج إلى إعادة هيكلة لمواجهة بيئة الطلب (السوق الجديدة) مثل شركات الطيران والسياحة. بعضها ستواجه تغيراً جوهرياً في سلوكيات العملاء ولا بد من تغيير نموذج العمل. بينما ستجد شركات أخرى أنها في منطقة مختلفة تماماً.
نماذج الأعمال قد تستمر في تحولها الجذري، وقد تتراجع أو تنتقل إلى وضع جديد.. لا يمكن المراهنة على احتمال واحد، حسب التقرير؛ فهذه ليست فقط أكبر صدمة اقتصادية بعد الحرب العالمية الثانية، بل إنها «صدمة سلوكيات المتعاملين ونماذج الأعمال أيضاً»، نتج عنها تحديات غير معهودة تتطلب نماذج عمل يمكنها استيعاب هذه التحديات. هناك خطوتان عمليتان يمكنها المساعدة بذلك: تشكيل فريق التخطيط المسبق، وتوجيه هذا الفريق للعمل عبر أطر زمنية متعددة ومرنة.
لا أحد يعلم إلى أين يتجه العالم.. الجميع الآن يراقب ويتعلّم.. «ولكن عليك أن تكون المتعلم الأفضل (أول من يعلم أين يتجه العالم) والمتكيف الأفضل (الذي يتخذ أفضل القرارات).. لا يتعلق الأمر في البداية بالخطة المثالية بل بالتواجد على أسرع مسار تحسين ممكن، وفقاً للقرير.
قبل كورونا كان العالم يتغير بسرعة، وبعدها صار يتشقلب بسرعة.. بالتأكيد بعض العادات الشرائية ستزول عند العودة للحالة المستقرة مثل زيادة شراء المنتجات الغذائية، لكن بعضها سيبقى ومعها سلوكياتها، فضلاً عن سلوكيات جديدة قيد الظهور.. والأشهر القليلة المقبلة ستحدد شكل المستقبل.