د. عبدالرحمن بن حمد الحميضي
بدأت النمسا باتخاذ أولى الإجراءات الاحترازية ضد انتشار العدوى بفيروس كورونا اعتبارًا من نهاية شهر فبراير الماضي بعد ورود أخبار عن انتشار العدوى في مقاطعة لومبارديا في إيطاليا، التي لها حدود مشتركة مع النمسا، فبدأت بإجراءات فحص عينات عشوائية على ركاب القطارات القادمة من إيطاليا إلى النمسا أو التي تعبر النمسا باتجاه ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية، ثم بدأت بإجراءات فحص عينات عشوائية على ركاب السيارات القادمين من إيطاليا أيضًا بعد أن وردت أنباء عن انتشار عدوى الفيروس في مقاطعتي فينيسيا والأوسكانا الإيطاليتين
ثم ظهرت أول حالة عدوى بفيروس كورونا في النمسا في الأسبوع الأول من شهر مارس لدى شخص مسن كان يقضي إجازة في إيطاليا ففرض عليه وعلى الأشخاص الذين احتك بهم بعد عودته العزل الصحي (كارانتينا) وبدأت النمسا بتطبيق إجراءات الكشف الطبي على المسافرين القادمين من إيطاليا، ودعا البرلمان النمساوي إلى الاجتماع لإصدار مجموعة من القوانين التي تخول الحكومة الاتحادية اتخاذ إجراءات استثنائية لمقاومة انتشار العدوى، ونصحت الحكومة المواطنين بتجنب السفر إلى إيطاليا وبتاريخ الحادي عشر من شهر مارس الماضي أعلن عن إغلاق الحدود مع إيطاليا باستثناء النمساويين العائدين منها إلى النمسا، الذين فرضت عليهم إجراءات العزل الصحي لمدة 14 يومًا، واستثنيت سيارات نقل البضائع من وإلى إيطاليا أيضًا وأكثرها يعبر النمسا من وإلى ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية. ونظرًا لورود أنباء عن انتشار العدوى في سويسرا أيضًا فعمدت الحكومة إلى إغلاق الحدود معها أيضًا، ثم تبعتها على التوالي دول أخرى وفي مقدمتها ألمانيا.
وخلال ذلك تبين وجود حالات عدوى بفيروس كورونا في ولاية تيرول النمساوية، فبدأت حكومة الولاية باتخاذ إجراءات المكافحة والعزل الصحي على بعض القرى والبلدات هناك، ثم تبين لها أن بلدة إشغيل، وهي مركز مهم لرياضة التزلج على الثلج كانت مصدر انتقال العدوى ثم انتشارها ففرضت حكومة الولاية العزل الصحي (كارانتينا) على البلدة والبلدات والقرى المجاورة، ونظرًا لأن المنطقة من أهم مراكز رياضة التزلج على الثلج في النمسا ويرتادها كثير من عشاق هذه الرياضة من الدول الأوروبية الأخرى مثل ألمانيا، وهولندا، والدنمارك، وغيرها ويقضون إجازاتهم فيها، فقد بدأ إجلاء هؤلاء الضيوف إلى بلدانهم، وحيث إن العدوى ظهرت أيضًا في بلدة هايليغينبلوت في ولاية كيرنتين فقد فرضت عليها حكومة الولاية «الكارانتينا» أيضًا، وتبعت ذلك بلدات في ولاية فوراديلبيرغ الحدودية مع ألمانيا، وسويسرا، وإمارة ليشتينشتاين، ففرضت «الكارانتينا» على تلك البلدات. ولأن كل تلك المناطق مناطق لرياضة التزلج على الثلج فقد أوقفت حركة عبارات التليفريك في كل أنحاء النمسا، أي في الولايات الثلاثة التي سبق ذكرها وفي ولايات سالزبورغ، والنمسا العليا، والنمسا السفلى أيضًا، التي أخذت تظهر فيها حالات العدوى أيضًا، وفرضت ولاية سالزبورغ العزل الصحي (كارانتينا) على عدة بلدات فيها، ونظرًا لسرعة انتشار العدوى وارتفاع عددها في ولاية تيرول فقد عمدت الحكومة إلى إعلان الحجر الصحي على جميع أراضي الولاية، وأوقفت وسائط النقل العامة ومنعت التنقل بين مدن وبلدات وقرى الولاية.
وحيث بدأت حالات العدوى بفيروس كورونا تظهر في الولايات النمساوية الشرقية والجنوبية مثل فيينا، وشتايرمارك (ستيريا)، والبورغينلاند، وإن كان بأعداد أقل، فقد عمدت الحكومة الاتحادية إلى اتخاذ إجراءات وقاية مشددة على جميع أنحاء البلاد اعتبارًا من منتصف شهر مارس الماضي فأوقفت الدراسة اعتبارًا من يوم الاثنين 16 مارس في جميع الجامعات والمدارس الثانوية بمختلف فروعها (أي اعتبارًا من سن 15 عامًا) وطلب من الأساتذة التواصل مع طلابهم عن طريق الإنترنت وتزويدهم بالدروس في المواد الرئيسة عن بعد (وفي موعد لاحق وزعت الحكومة الاتحادية 12000 لوح إليكتروني على الطلاب الفقراء الذين لا تتوفر لديهم أجهزة كومبيوتر في بيوتهم لتمكينهم من متابعة الدروس، كما وزعت حكومة ولاية فيينا عدة آلاف من هذه الأجهزة على الطلاب الفقراء في مدارس الولاية أيضا).
وفي نفس التاريخ أي يوم 16 مارس أعلنت الحكومة عن إغلاق المحلات التجارية في جميع أنحاء البلاد باستثناء محلات بيع المواد الغذائية (سوبر ماركت)، والصيدليات، والبنوك، ومراكز البريد، ومحلات بيع الجرائد.
وطلب من الشركات صرف موظفيها للعمل من المنزل، وطبق هذا الإجراء على الدوائر الحكومية الاتحادية والولائية والبلدية ما أمكن ذلك أيضًا.
وأما المدارس الابتدائية والمتوسطة (أي حتى سن 14 عامًا)، ودور الحضانة ورياض الأطفال فرضت الحكومة إيقاف العمل فيها اعتبارًا من يوم الأربعاء 18 مارس، وطلبت من إداراتها تنظيم جداول للمعلمين ومربيات رياض الأطفال للدوام بشكل دوري للعناية بالأطفال، الذين سيضطرون للقدوم إلى مدارسهم ودور حضانتهم لعدم وجود من يرعاهم في بيوتهم، وهم أبناء وبنات العاملين في المرافق الصحية والحيوية كالمستشفيات والعيادات الطبية والصيدليات، وأبناء وبنات العاملين في محلات السوبر ماركت، والبنوك، والبريد، وعناصر الشرطة، وعمال النظافة وغيرهم ممن عليهم متابعة العمل في مهنهم لاستمرار تقديم ضروريات الحياة للمواطنين، وناشدت الحكومة هؤلاء بعدم إيداع أولادهم وبناتهم لدى الأجداد والجدات لأنهم من أصحاب الفئة العمرية المعرضة أكثر من غيرها للإصابة بعدوى الفيروس، وقد بينت الإحصائيات أن نسبة 5 في المائة فقط من الأطفال كانوا مضطرين للحضور إلى مدارسهم ودور حضانتهم للاستفادة من خدمة العناية التي يقدمها المعلمون والمربيات فيها.
وبتاريخ 16 مارس أعلنت الحكومة تخفيض العمل في المطاعم والمقاهي وإغلاقها اعتبارًا من الساعة الثالثة بعد الظهر، ثم عادت بعد يومين وقررت إغلاق كافة المطاعم والمقاهي حتى تاريخ 14 أبريل، أي بعد انتهاء عطلة عيد الفصح (القيامة) المسيحي، وسمحت للمطاعم بتقديم خدمة توصيل الوجبات للبيوت، لإمداد من لا يتمكن من الطبخ من كبار السن والعاملين في المرافق الحيوية بالطعام، ولكنها منعت دخول الزبائن إلى المطاعم، أو إحضار الأطعمة بأنفسهم منها.
رافقت ذلك إجراءات إغلاق الفنادق، والمسارح، ودور السينما، والمسابح، ومحلات الرياضة البدنية، والملاعب بما فيها ملاعب الأطفال، والحدائق الاتحادية، أي باختصار كل أماكن تجمع الأشخاص واقترابهم من بعضهم البعض.
وأما إجراءات الوقاية الفردية التي فرضتها الحكومة فتتلخص بمنع التجول المشترك في الشوارع بين أشخاص لا يسكنون في نفس البيت، وفرضت على المتجولين للأسباب الضرورية، مثل شراء مستلزماتهم الضرورية من السوبر ماركت، أو الصيدلية، أو لتوصيل الأطعمة، أو لاستنشاق الهواء وغير ذلك الاحتفاظ بمسافة فاصلة بينهم لا تقل عن متر واحد على الأقل. كما فرضت على العاملين في المرافق الحيوية ومن يدخلونها مثل الزبائن في السوبر ماركت والصيدلية، والعيادة الطبية ارتداء الكمامات الواقية، وطلبت من أصحاب السوبر ماركت وضع حواجز زجاجية أمام العاملين في صناديق الحساب (الكاسة) وطلبت من المواطنين دفع الحساب بالبطاقات الائتمانية وتجنب استعمال العملة الورقية ما أمكن ذلك.
ودأبت الحكومة على مناشدة المواطنين غسل أيديهم تكرارًا بالماء والصابون لمدة 20 ثانية على الأقل كلما خرجوا من البيت أو عادوا إليه، كما طلبت من أصحاب المحلات تعقيم عربات التبضع باستمرار.
وفيما يتعلق بالمستشفيات والعيادات الطبية، فقد ناشدت الحكومة المواطنين تأجيل أي إجراء صحي مثل العمليات الجراحية القابلة للتأجيل لترك أسرة المستشفيات للحالات الطارئة والحرجة ومرضى عدوى فيروس كورونا، كما طالبت المواطنين عدم تعريض أنفسهم للإصابات نتيجة للحوادث مثل ممارسة رياضة شاقة مثلاً لعدم زيادة الضغط على المستشفيات.
ومن جهة أخرى وضعت السلطات الصحية أبنية خشبية في مداخل المستشفيات يدخل إليها العاملون في المستشفى ليجري تعقيمهم ولبس الوسائل الوقائية قبل التوجه لأقسامهم، وجعلت مداخل خاصة للمرضى ليجري عليهم الكشف الحراري قبل السماح لهم بالتوجه إلى العيادات المتخصصة، وإذا أظهر الكشف الحراري احتمال الإصابة بعدوى فيروس كورونا يجري توجيه المريض إلى الأقسام المعزولة في المستشفى لإجراء اختبار عدوى الفيروس، فإذا تأكَّدت العدوى ينقل المريض فورًا إلى مستشفيات خصصت لعلاج مرضى فيروس كورونا. هذا ومنعت زيارة المرضى في المستشفيات باستثناء الزوج أو الزوجة، أو الابن أو الابنة فقط وتكون الزيارة افرادية وقصيرة.
وأما عيادات الأطباء فطلب من المواطنين تجنب مراجعة الطبيب فيها إلا في الحالات الضرورية وبعد الاتصال الهاتفي بالطبيب أو الطبيبة وشرح الأعراض فإذا رأى الطبيب ضرورة حضور المريض للعيادة فيأتي واضعًا كمامته الواقية ومنع دخول المرضى بإعداد والجلوس في غرف الانتظار، بل يبقون أمام باب العيادة حتى يسمح لهم بالدخول، وإذا وجد الطبيب أن الحالة لا تستدعي حضور المريض إلى العيادة مثل الحالات المرضية المزمنة والمعروفة لدى الطبيب، وحالات الأعراض المرضية الخفيفة، فيصف له الدواء عن بعد ويرسل الوصفة عن طريق الإنترنت إلى الصيدلية التي اعتاد المريض على شراء الدواء منها فتصرفه له. وأما إذا كانت الأعراض التي يصفها المريض تدعو للشك بإصابته بعدوى فيروس كورونا فيتصل الطبيب برقم هاتفي خصص لذلك فيحضر فريق لبيت المريض بألبستهم الواقية ويأخذون منه خزعات للاختبار ويطلبون منه عدم مغادرة بيته حتى تظهر نتيجة الاختبار، وإذا كانت النتيجة إيجابية فحسب الأعراض إذا كانت خفيفة يبقى في العناية والعزل المنزلي، وأما إذا كانت قوية فينقل إلى أحد المستشفيات التي خصصت كلها أو أجنحة منها لعلاج مرضى عدوى الفيروس. ويتم إجراء الاختبار على جميع الأشخاص الذين كانوا معه في البيت أو احتك بهم للتأكَّد من خلوهم من العدوى، أو إصابتهم بها دون أعراض، فيوقع عليهم في هذه الحالة العزل الصحي في بيتهم لمدة 14 يومًا حتى لا ينقلوا العدوى لآخرين.
ومن بين الإجراءات الأخرى التي اتخذتها الحكومة الاتحادية النمساوية إيقاف حركة الطيران من وإلى النمسا، باستثناء طائرات شحن البضائع والطائرات التي أخذت الحكومة تستأجرها لإعادة النمساويين الموجودين للعمل أو للسياحة من مختلف أنحاء العالم بدءًا من الصين وانتهاء بالمغرب وبلدان أمريكا اللاتينية مثل البرازيل والأرجنتين، والولايات المتحدة الأمريكية بعد أن بدأ تفشي عدوى فيروس كورونا فيها. وقد أعيد حتى الآن عدة آلاف من النمساويين إلى وطنهم، كما كانت الطائرات النمساوية تعيد مواطني دول الاتحاد الأوروبي الراغبين بذلك أيضًا.
ومن بين الإجراءات الاستثنائية التي عمدت إليها الحكومة النمساوية لمقاومة انتشار العدوى الطلب من الكنائس والهيئات الدينية وقف المراسم الدينية الجماعية، فتوقفت الكنائس عن إقامة قداس الأحد بحضور مصلين، بل يقوم به عدد قليل من الكهنة فقط مع الاحتفاظ بالمسافة الفاصلة بينهم، كما أعلنت الهيئة الدينية الإسلامية عن إيقاف صلاة الجمعة والجماعة في المساجد وطلبت من المؤمنين الصلاة في بيوتهم.
ومن جهة أخرى منعت الحكومة حضور مراسم دفن الموتى سوى من أعضاء العائلة الأقربين فقط، وطبق هذا الإجراء فيما بعد على مراسم الزواج أيضًا.
وكانت وسائل الإعلام تناشد المواطنين وخصوصًا منهم أصحاب الشريحة العمرية من سن 65 سنة فما فوق البقاء في منازلهم وعدم القيام بالتزاور فيما بينهم، وخصوصًا عدم زيارة الأحفاد والحفيدات للأجداد والجدات، بل عمدت الحكومة الاتحادية إلى نشر إعلان رسمي في وسائل الإعلام تظهر فيه فتاة من عمر 10 سنوات تقريبًا تقول فيه أنا أحب جدي وجدتي ولكنني لن أقوم بزيارتهما الآن لأنني أريد أن يبقيا معي سنوات كثيرة.
ومن الإجراءات الإحترازية التي عمدت إليها مؤسسة الإذاعة النمساوية العمومية (RF) حجز 16 شخصًا من منسوبي القناة التلفزيونية الثانية (مذيعين وفنيين) في جناح عزل خاص لضمان استمرار الخدمة الإخبارية للمواطنين حتى لو تفشت العدوى بين موظفي المؤسسة.
طبعًا فوجئت النمسا بحصول هذه الجائحة وسرعة انتشارها مثل دول كثيرة، ولذلك كانت لديها في الأسابيع الثلاثة الأولى صعوبات جمة في تأمين أعداد كافية من الكمامات الواقية ومن ملابس حماية العاملين في المرافق الصحية، وبذلت جهودًا كبيرة لشراء هذه اللوازم من الأسواق العالمية، وكانت أول الإرساليات التي حصلت عليها من الصين ثم من ماليزيا وتم نقلها على طائرات نمساوية أرسلت خصيصًا لهذا الغرض، وفي الحقيقة ما زالت هنالك مصاعب في تغطية كل احتياجات الأطباء والمرافق الصحية بالملابس والكمامات عالية الجودة لحمايتهم من انتقال العدوى، وفسرت تلك الصعوبات بأن بعض الدول الآسيوية قد اعتاد مواطنوها على وضع الكمامات على الأنف والفم لكثافة انبعاث الغازات في أجوائها فكانت لديهم مصانع متخصصة بإنتاجها، بينما لم تكن هنالك حاجة لذلك في النمسا وبعض بلدان أوروبية أخرى.
وأما من جهة أسرة المستشفيات فكانت دائمًا متوافرة، ولا سيما منها أسرة العناية المركزة ففي ذروة ارتفاع أعداد الإصابات بالعدوى الشديدة كان هنالك 1200 سرير عناية مركزة ما زالت شاغرة، حتى سمحت الحكومة بنقل مرضى عناية مركزة فرنسيين للعلاج في النمسا بعد أن امتلأت أجنحة العناية المركزة هناك.
كل هذه الإجراءات الوقائة أدت بالطبع إلى شبه توقف لعجلة الاقتصاد النمساوي وإلى تسريح مئات آلاف العاملين وانتقالهم إلى البطالة، هذا إلى جانب توقف العمل والدخل لدى أصحاب الأعمال المتوسطة والصغيرة أيضًا مثل الفنادق والمقاهي والمطاعم والحلاقين ومراكز التدليك والعلاج الطبيعي وأصحاب المحلات التجارية العائلية الصغيرة، والعاملين في المجالات الفنية كالمسارح ودور الكونسرت (علمًا أن المواسم والمهرجانات المسرحية والموسيقية الكثيرة التي تقام في مختلف المدن النمساوية وتستقبل زوارًا من مختلف أنحاء العالم قد ألغيت أو أجلت إلى أجل غير مسمى) وغيرها كثير، مما استدعى اتخاذ إجراءات استثنائية من قبل الحكومة الاتحادية وحكومات الولايات لمساعدة المتضررين من جهة والحيلولة دون انهيار الاقتصاد على المدى الطويل، ومن ضمن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الاتحادية في بداية الأزمة أن ناشدت أصحاب الأعمال عدم تسريح العاملين لديهم، وإنما تسجيلهم لدى دائرة سوق العمل على نظام العمل الجزئي، أي بنسبة 10 في المائة فقط من وقت العمل لمدة 3 أسابيع وتخيير صاحب العمل بجعلهم يعملون 10 في المائة أسبوعيًا أو 30 في المائة في أحد الأسابيع الثلاثة لاحتفاظ المحل أو المؤسسة التشغيلية بطاقتها على استئناف العمل بعد انحسار الجائحة، وضمنت الحكومة تحمل 80 إلى 90 في المائة من رواتب العاملين وتسديد أقساط التأمين الاجتماعي عنهم بالكامل أيضًا، وخصصت لهذا الإجراء مليار يورو ما لبثت أن رفعت المبلغ إلى 4 مليارات يورو، لأن كثيرًا من أصحاب الأعمال استبدلوا إجراء التسريح بنظام العمل الجزئي.
ثم خصصت الحكومة مبالغ مليارية لمساعدة أصحاب الأعمال الحرة والمحلات التجارية الصغيرة بصرف معونة فورية بواقع 1000 يورو للشخص، مع إمكانية حصوله على مساعدة الأحوال الطارئة لتغطية نسبة من الدخل المفقود بعد تقديم الطلب اللازم بما في ذلك بيان ضريبة الدخل عن العام الماضي لحساب مبلغ التعويض، وعهد بتطبيق هذا الإجراء إلى غرفة الاقتصاد الاتحادية.
ونظرًا لأن المصانع والشركات الكبرى ومن بينها شركة الطيران النمساوية (لديها 7000 موظف سجلوا في نظام العمل الجزئي) قد أصيبت بأضرار بالغة فقد خصصت الحكومة الاتحادية مبلغ 35 مليار يورو لدعم هذه المؤسسات الاقتصادية وطلبت من البنوك تأجيل استيفاء الديون على المديونين، كما طلبت منهم منح قروض عاجلة لمن يحتاجونها على أن تضمن الحكومة الاتحادية 90 في المائة من مبلغ الدين.
ومن بين المصاعب التي تعرضت لها النمسا أنها كانت تشغل 35 ألفًا من رعايا بعض دول أوروبا الشرقية مثل التشيك، والسلوفاك، والسلوفين، والكروات، والبلغار، والرومان في الرعاية المستمرة (24 ساعة) للعجزة والمقعدين في بيوتهم، وكان هؤلاء يتناوبون العمل لمدة 15 يومًا ثم يعودون إلى بلدانهم لمدة 15 يوما، فلما أغلقت الحدود بسبب وباء فيروس كورونا امتنعت عودة من كان منهم في بلده، وللتغلب على هذه المشكلة استدعت الحكومة أعدادًا من الأشخاص الذين سبق لهم أداء الخدمة المدنية الإلزامية ليقوموا بالعناية بالمسنين والمقعدين وتكفلت بدفع فارق مبلغ الراتب الذي كانوا يتقاضونه في أعمالهم، ومددت خدمة الموجودين في الخدمة الإلزامية الذين كانت مدة خدمتهم ستنتهي، كما عرضت دفع مبلغ 500 يورو إضافية على الراتب الذي كان سيتقاضاه العامل في مجال الرعاية للمسنين من رعايا دول أوروبا الشرقية لمن يتقدم للقيام بهذا العمل من النمساويين، ومنذ مدة قصيرة سمحت بعض بلدان أوروبا الشرقية للعاملين بالرعاية بالقدوم ثانية إلى النمسا، حتى أن حكومة النمسا السفلى أرسلت طائرة استأجرتها خصيصًا لنقل العاملين برعاية المسنين من رعايا رومانيا إلى النمسا السفلى.
وحيث إن إجراءات تقييد حركة التجول والمحافظة على المسافة الفاصلة بين الأفراد وارتداء الكمامات الواقية تحتاج إلى الرقابة الشرطية الكثيفة فقد استدعت وزيرة الدفاع النمساوية 1500 من جنود الاحتياط للخدمة للقيام ببعض الأعمال التي كانت من مهام عناصر الشرطة مثل حراسة السفارات الأجنبية والمعابر الحدودية وغيرها، وذلك لتتفرغ عناصر الشرطة لمراقبة تقيد المواطنين بإجراءات الوقاية، وقد حررت الشرطة بضعة آلاف من محاضر المخالفة للتعليمات، وستفرض على المخالفين غرامات مالية قد تصل إلى 3500 يورو.
كل هذه الإجراءات استدعت إصدار مجموعة من القوانين التي تخول الحكومة فرضها والقيام بها، مما استدعى دعوة البرلمان للانعقاد بصورة عاجلة في يوم الخميس 5 مارس، حيث قدمت الحكومة مقترحاتها وأحيلت إلى لجان المجلس الوطني (مجلس النواب) لمناقشتها، ثم عرضت على جلسة عامة للمجلس الوطني يوم السبت 7 مارس للمداولة والتصويت على نصوص القوانين التي صاغتها لجان المجلس المختصة فوافق عليها المجلس بإجماع أصوات الائتلاف الحاكم والمعارضة، ثم أحيلت إلى المجلس الاتحادي (الغرفة الثانية في برلمان النمسا) لمناقشتها والتصويت عليها، وأخيرًا أحيلت بعد موافقة المجلس الاتحادي إلى الرئيس الاتحادي للتوقيع عليها تمهيدًا لنشرها في صحيفة القوانين الاتحادية لتصبح نافذة المفعول اعتبارًا من يوم الاثنين 9 مارس، أي أن البرلمان عمل في نهاية الأسبوع وهذا إجراء فريد لا يحدث إلا في الحالات الطارئة.
وتكررت دعوة البرلمان للانعقاد بعد ذلك لإصدار قوانين استثنائية مكملة مثل تخصيص مبالغ الدعم والمساعدة للأفراد والمؤسسات الاقتصادية، وإقرار الموازنة العامة المعدلة للدولة وغيرها، وكان النواب يحضرون الجلسات واضعين الكمامات الواقية، ولعدم اقترابهم من بعضهم اتفقت الأحزاب على حضور أعداد متوازية من نوابها في جلسات النقاش للمحافظة على المسافة الفاصلة، بينما يحضر الجميع في القاعة لدى إجراء التصويت ولا يجلس الكل في مقاعدهم بل يجلس قسم منهم في الشرفات المخصصة للضيوف عادة، أو يقفون في ممرات القاعة وخلف آخر صف مقاعد في أعلى مدرج القاعة.
ودأبت الحكومة على عقد مؤتمرات صحفية يومية في مبنى المستشارية يحضرها المستشار ونائبه ووزير الصحة ووزير الداخلية، وأحيانًا وزيرة العدل، أو وزير المالية، أو وزيرة الاقتصاد، أو وزير التعليم، أو وزيرة الدفاع، أو وزيرة الاندماج والعمل، وهكذا بحسب الإجراء الذي تود الحكومة إطلاع المواطنين عليه.
كما دأبت وزارة الصحة على إعلان الإحصائيات المتعلقة بانتشار العدوى بفيروس كورونا مرتين يوميًا، مرة في الساعة الثامنة صباحًا، ومرة في الساعة الثالثة بعد العصر، كما يتحدث وزير الصحة يوميًا في نشرات مؤسسة الإذاعة النمساوية العمومية، وغيرها من قنوات التلفزيون الخاصة، ويرد على أسئلة الصحفيين، ويفعل ذلك المستشار، ووزير الداخلية أيضًا.
والآن يمكن القول إن النمسا قد تمكنت من التغلب على جائحة فيروس كورونا المستجد أو تكاد، فبعد أن كان المنحنى البياني لانتشار العدوى خلال الأسابيع الثلاثة الأولى يأخذ منحىً شاقوليا، تبعت ذلك فترة استقرار، ثم بدأ المنحنى البياني بالانخفاض التدريجي حتى وصل إلى مستوى أفقي تقريبًا، وبيان ذلك بالأرقام:
بعد أن كانت أعداد حالات العدوى في الأسبوع الثاني لانتشارها تتضاعف كل 3 أيام تراجع الرقم الآن بحيث أصبحت إمكانية مضاعفة عدد حالات العدوى حسابيًا تستغرق 39 يومًا.
وبعد أن وصلت نسبة الزيادة اليومية في حالات العدوى نحو 14 في المائة خلال 24 ساعة أصبحت الآن 0.8 في المائة فقط.
ووفقًا لآخر إحصائية أعلنت عنها وزارة الصحة النمساوية فالحالات المؤكدة كالتالي:
- إجمالي حالات العدوى المؤكدة بفيروس كورونا في عموم النمسا: 14147 حالة.
- عدد الوفيات: 348 وفاة.
- عدد حالات الشفاء: 757 حالة.
- عدد الأشخاص الذين ما زالوا تحت العلاج في المنزل أو المستشفى: 6168 شخصًا.
- عدد الأشخاص الخاضعين للعلاج في أجنحة العناية المركزة: 292 شخصًا.
- عدد الاختبارات التي أجريت حتى الآن: 152000 اختبار.
- هذا وسترفع وزارة الصحة عدد إجراءات الاختبار اليومية اعتبارًا من الأسبوع المقبل لتصل إلى 10000 اختبار يوميًا.
- كما سيجرى نوع آخر من الاختبارات التي تجرى لجميع الأشخاص وتبين تكون مضادات حيوية للفيروس في جسم الإنسان وبذلك يكون الشخص المعني قد أصيب بالعدوى دون أعراضها المرضية وتكونت لديه مناعة نتيجة لذلك، أم أنه لم يكن تلك المضادات في جسمه ويكون ما زال معرضًا للإصابة بعدوى الفيروس.
- نظرًا للنتائج المشجعة حتى تاريخه قررت الحكومة السماح بفتح المحلات التجارية الصغيرة (مساحتها أقل من 400 متر مربع) للزبائن اعتبارًا من يوم 14 أبريل الجاري أي بنهاية عطلة الفصح، مع التقيد بالإجراءات الصارمة، أي ارتداء الكمامات، المحافظة على المسافة الفاصلة، الدخول بأعداد قليلة إلى المتاجر بحيث يتوافر للشخص الواحد 20 مترًا مربعًا بداخلها، كما سمحت اعتبارًا من الآن للزبائن بإحضار الوجبات بأنفسهم من المطاعم دون الدخول إليها، والمحلات الوحيدة الكبرى التي سمحت الحكومة بإعادة فتحها هي محلات بيع مواد البناء، وذلك لأنها تبيع شتلات المزروعات والزهور ومستلزماتها أيضًا، وكان أصحاب المشاتل يخشون فسادها وانتهاء موسمها مما يلحق بهم خسائر لا تعوض، ولكن الحكومة فرضت رقابة مشددة على تطبيق إجراءات الوقاية الصارمة على العاملين والزبائن. أما المقاهي والمطاعم والفنادق وبقية المحلات الكبيرة فستبقى مغلقة، وكذلك المدارس والجامعات حتى نهاية شهر أبريل الجاري حيث ستقوم الحكومة بتقييم التطورات الحاصلة بعد فتح المحلات الصغيرة ثم تقرر على ضوء ذلك مواعيد فتح المحلات الأخرى في خلال شهر مايو المقبل من عدمه.
- وأما ولاية تيرول فقد أعلنت رفع حالة الحجر الصحي (الكارانتينا) عن عموم أنحاء الولاية والسماح بالتنقل منها وإليها وبين بلداتها باستثناء بلدة إشغيل، التي مازالت تحت الرقابة. وكذلك الحال بالنسبة لولاية سالزبورغ التي رفعت حالة الحجر الصحي عن المناطق التي كانت قد فرضتها عليها باستثناء منطقة وادي غاشتاين التي مازالت تحت المراقبة أيضًا.
- على العموم يسود الآن التفاؤل الحذر في أنحاء النمسا بأن البلاد قد تجاوزت الآن عنق الزجاجة بالفعل.
وختامًا إذا ما تم مقارنة جهود بعض الدول المهمة مثل النمسا في مكافحة كورونا مع جهود المملكة العربية السعودية، نجد أن المملكة قد تفوقت في اتخاذ الاحترازات الصحية الصارمة وذلك حماية للمواطن السعودي والمقيم.
حمى الله بلادنا من كل مكروه