(سمرقند) رواية تاريخية لأمين معلوف ترجمها عفيف دمشقية الذي ترجم معظم أعمال معلوف صدرت طبعتها الأولى عن دار الفارابي ببيروت عام 1986 لكنها لم تفقد وهجها، بدليل توالي طبعاتها بعد ذلك..
لم تحتل (سمرقند) إلا جزءاً ضئيلاً من أحداث الرواية، فهي سيرة عمر الخيام منذ مفارقته مسقط رأسه (نيسابور) وحتى وفاته فيها، وهي حكاية لقائه بكل من الوزير السلجوقي نظام الملك، وحسن الصباح مؤسس فرقة الحشاشين في قلعة (ألموت) ثم سيرة مخطوط رباعياته المعروف باسم (مخطوط سمرقند) منذ إنشائه حتى فقدانه في باخرة (تيتانيك)!.
تشمل الرواية أربعة أجزاء في فترتين زمانيتين مختلفتين ومتباعدتين. في الفترة الأولى يبدو عمر الخيام يتجول في سمرقند فيشاهد طائفة من الرعاع يعذبون شيخاً وحين نظر إليه عمر بأسى قال له أحدهم: «إنه جابر الطويل»، يعني أنه لا يستحق الرثاء. لكن عمر عرفه إنه جابر، صاحب أبي علي؛ ابن سيناء يضربونه لاشتغاله بالفلسفة. حاول عمر التدخل لثنيهم عن إيذائه لكنهم شكُّوا في مقصد هذا الغريب، وتحولت نقمتهم إليه بعد أن عرَّف بنفسه بناء على طلبهم. وصلت ميليشيا سمرقند فأنقذته، لكن الغوغائيين صاحوا بهم: إنه كيميائي. وهنا قررت الميليشيا أخذه إلى قاضي القضاة فالكيمياء أشد خطراً من الفلسفة!..
عرفه القاضي أبو طاهر فصرف الذين جاؤوا به، ثم انفرد به وطمأنه واستضافه في مقصورة في حديقة قصره، وناوله سجلاً من أفخر ما أنتجته مصانع الورق في سمرقند ليدون فيه أشعاره، وفي الصباح استقبله أمام الملأ ليعرِّفَهم قدره. وكان الملك (نصر خان) قد أوشك على الوصول إلى المدينة، فدعا قاضي القضاة الجميع للخروج لاستقباله، واصطحب القاضي عمر إلى جواره.
انتهى حفل الاستقبال، وفي الغد تقدم الوجهاء للسلام على جلالته، وكان من بينهم قاضي القضاة وضيف سمرقند عمر الخيام. واسترعى انتباه عمر الشاعرة الأرملة (جهان) بشعرِها وجمالها، وكانت له معها ليال سعيدة فيما بعد. في هذه الأثناء قُتل السلطان السلجوقي (ألب أرسلان) ونظراً لما بين نصر خان والسلطان السلجوقي من نسب فقد رأى الملك إرسال وفد للتعزية، كان من ضمن الوفد أبو طاهر وعمر الخيام. في مجلس العزاء همس الوزير ذائع الصيت نظام الملك في أذن عمر وهو يتلقى تحيته بقوله: «العام القادم في مثل هذا اليوم كن في أصفهان فلنا حديث». وحين حال الحول اتجه عمر إلى أصفهان، وفي طريقه توقف في (قاشان) وفي أحد فنادقها المزدحمة لم يجد سكناً إلا في غرفة مشتركة مع طالب علم من (قم) متجهٍ إلى أصفهان يبحث عن عمل لدى الوزير الأعظم.. إنه حسن الصباح!.
في أصفهان يلتقي الخيام بنظام الملك ويعرض عليه العمل في وظيفة (رئيس الخبر) لكن عمر يعتذر بأدب، ويشير عليه برفيقه حسن الصباح. وينخرط حسن في الوظيفة، ويظهر قدراته وسلطته حتى أصبح رجل الدولة، وأوشك أن يزيح نظام الملك من منصبه.
وفي هذه الأثناء كانت (خاتون) زوجة ملكشاه اقترحت على عمر تعيينه في منصب الوزير الأعظم خلفاً لنظام الملك، ورفض كما رفض من قبل، فهو لم يهيأ لأي وظيفة كانت. وتمكن نظام الملك من تبرئة نفسه مما اتُّهم به كما تمكن من طرد حسن من دولة السلاجقة. وبدأ حسن بعد طرده تأسيس إمبراطوريته السرية في قلعة (ألموت) ولم ينس خصمه نظام الدين، فأرسل له من ينهي حياته بعد فترة قصيرة.
ثم مات ملكشاه، واضطربت الحال في أصفهان، وقدم على عمر (ورطان الأرمني) أحد حراس نظام الملك الذي اقترح على عمر الخروج من أصفهان، ونذر نفسه لحراسته.
هام عمر على وجهه برفقة حارسه من بلد إلى بلد حتى إذا وصل إلى مرو سنة 1114 عرض عليه صاحبُها إقامة مرصد في المدينة، ولم يكن عمر في سِنِّه التي بلغت ستاً وستين يطمع في أكثر من هذا. وبعد سنتين من الإقامة بمرو أرسل حسن لعمر طالبا منه أن يأتي إلى (ألموت) ليعيش كما يريد. وفرح ورطان ظنا منه أن عمر سيستجيب فلم يكن قصده من رفقته إلا أن يجد فرصة للقضاء على حسن الصباح، لكن عمر خيب أمله بعدم رغبته في السير إلى ألموت. وسرعان ما أرسل حسن مندوبه ليزهق روح ورطان، ويسرق مخطوط عمر. ولم يجد عمر بداً من العودة لبلدته نيسابور ليموت فيها سنة 1131.
فيما تبقى من الرواية تنتقل بنا المشاهد إلى (بنيامين لوساج) مواطن أمريكي من أم فرنسية. سافر أبوه عام 1870 إلى باريس وتعرف على شيخ في مقهى دعاه إلى بيته، وتعرف على ابنته، وانتهى التعارف إلى زواج أثمر عن إنجاب بنيامين. أما أعجب ما في قصة تعارفهما فهو أنهما حين التقيا كان كل منهما يقرأ مخطوط سمرقند؛ هي تقرأ في ترجمته الفرنسية؛ وهو يقرأ الترجمة الإنجليزية.
نشأ الابن بنيامين شغوفاً بالخيام وبالدراسات الشرقية، ومتلهفاً لزيارة الشرق. وفي عام 1895 أبحر إلى أوروبا للتعرف على جده -أبي أمه- وكان وهو في السادسة والسبعين من عمره فتيّ الروح. عرَّفه على ابن عمه (هنري روشفور) ومنه عرف أن جمال الدين الأفغاني أطلعه على المخطوط في مقر إقامته في باريس، وهو يقيم حالياً في القسطنطينية.
وهنا يرحل بنيامين إلى القسطنطينية، ويلتقي بجمال الدين، وييسر له سبل الوصول إلى فارس. يزوده بخطاب لصديقه المقرب (فاضل) وخطاب لـ (ميرزاً رضا) التاجر الفارسي الذي أصبح درويشاً جراء تعذيبه ونهب أمواله والذي يملك معلومات عن المخطوط. وكان بنيامين قد التقى عند جمال الأميرة شيرين؛ حفيدة الشاه وتبادلا النظرات. قال له جمال: إذا ضاقت بك الحيل الجأ إلى شيرين.
يلتقي بنيامين بميرزا فيخبره بأن المخطوط لدى جندي كرماني سيأتي به إليه يوم الجمعة، ويوم السبت يسلمه إياه. وقبل اليوم الموعود تحدث الكارثة. يحضر الشاه يوم الجمعة إلى مزار (شاه عبدالعظيم)، ويجد ميرزا الفرصة مواتية لقتله فيُعتقل ويُعثر معه على رسالة جمال وفيها اسم بنيامين.
ما من شك أن بنيامين أصبح شريكا للقاتل فكيف يهرب؟ اتجه إلى المفوضية الأمريكية، لكنه وجد الشرطة تغلق مدخل الزقاق المؤدي إليها فما كان منه إلا أن هرب والتجأ إلى بستان ليس فيه سوى أم وابنتيها وكانت الأم قد أعدم زوجها قبل خمسة عشر عاماً ولذا فقد أسعدها أن تستضيف من أخذ بثأرها، ورأت من الواجب أن تلقمه ثديها ليصبح ابناً لها وشقيقاً لبنتيها!
حين أراد المغادرة تذكر شيرين. أرسل لها مع أمه بالرضاعة عبارة تدل عليه دون أن يذكر اسمه: «من يدري فقد يتقاطع طريقانا»! إنها العبارة الوحيدة التي قالتها له حين التقاها أول مرة لدى جمال الدين. وأنقذته، ورحَّلته خارج فارس إلى البصرة، ومنها انتقل بالباخرة إلى القسطنطينية. سألها قبل أن يودعها عن المخطوط، قالت له إنها ستبحث عنه وتكتب له بخبره. وجد جمال مريضاً بالسرطان مترقباً هلاكه من الشاه أو السلطان أوالسرطان.
وعاد بنيامين إلى أمريكا، وتلقى رسالة من شيرين عرف منها أن المخطوط وُجد في أمتعة القاتل وهو الآن عندها. ويعود مرة أخرى إلى فارس ويقضي فصولاً من الأحداث والثورات والاضطرابات ويمضي وقتاً ممتعاً في صحبة شيرين لا سيما بعد أن شاهد المخطوط بأم عينيه.
لم يبق إلا أن يتتبع آثار الخيام بدءاً من سمرقند لكنه لم يجد فيها شيئاً ذا بال، فيقرر العودة إلى أمريكا بصحبة شيرين والمخطوط. يعودان في أول وآخر رحلة لـ(تايتانيك) في أبريل سنة 1912محتفليْن بعرسهما الذي تم قبل ثلاثة أسابيع في باريس، وبالمخطوط الذي أودعاه خزانة حديدية في الباخرة، يتسليان بقراءته كل ليلة حتى إذا طل الصباح أعاداه إلى خزانته. وتغرق الباخرة لكنهما ينجوان ويصلان إلى اليابسة من غير المخطوط.. ويتلفت باحثاً عن شيرين فلا يجد لها أثراً!
بعد ست سنوات يردد بنيامين: «ما زال الوحيد الذي يرهقني هو ذلك الكائن من اللحم والحبر الذي كنت في وقت من الأوقات مستودعه غير الجدير به»!
** **
- سعد عبدالله الغريبي