بين بدائل التغيير التي طرأت على الحركة الشعرية في العالم العربي منذ الخمسينيات والستينيات، تأثرت القصيدة الشعرية السعودية بمناخات التغيير الشعري في العالم العربي، وتطور الشكل من القصيدة العمودية التقليدية إلى قصيدة التفعيلة، ثم بدأت موجة من التغيير في قصيدة النثر، ثم ما لبث أن عاد الوهج مرة أخرى منذ نهاية التسعينيات وما بعد الألفية للقصيدة العمودية، التي بدأت بالنضج والوعي لدى الشعراء السعوديين في عودتهم الحثيثة الواعية لكتابة الشعر.
فظهرت علامات شعرية بارزة كونت مشهد التجديد في القصيدة العمودية السعودية الجديدة، ولعل من أبرزها تجربة جاسم الصحيح في القصيدة العمودية، ومع أن الصحيح لم يكتب القصيدة العمودية فقط، بل تجاوزها إلى قصيدة التفعيلة وإن بنسب متفاوتة، ولكن تفتَّح تجربته في القصيدة العمودية، أسهمت بشكل كبير في رسم ملامح القصيدة العمودية الحديثة في السعودية فيما بعد الألفية.
فنجد قصيدة جاسم الصحيح العمودية، تخبرنا بامتدادها بأن الشاعر هو من أهم شعراء القصيدة العمودية، صورًا، ولغة، وحداثة في التكوين والرؤية، مؤثثًا قصيدته، متكئأ على معرفة واسعة بالتراث العربي والديني، وبثقافة منفتحة على تاريخ الشعر القديم والحديث، إضافة إلى ما ابتكره من صور وأخيلة، وما قدمه من رؤية، ورصانة كتابية في إنتاج شعري تجاوز اثني عشر ديوانًا كونت أركان تجربته، وقدرته البلاغية، وريادته الشعرية، وعمقه الفلسفي.
يقول جاسم الصحيح:
حينما تهرشُ الوساوسُ روحي
أنحني كي تَحُكَّني الكلماتُ
وإذا ما تَنَفَّسَ الحِبرُ هَمِّي
هَدْهَدَتْني كحضنِ أُمِّي، الدّوَاةُ
وفي الأحساء الهوى، والهوية، تشكلت هوية الشاعر، المغنَّي، الفيلسوف، العارف، العازف بأغنية النخل، الذي نسج القصيدة واقعًا، وحمل الهوية معنى، وريادة:
كالأبجديةِ بعد حرف (الياءِ)
مُتَشَرّدٌ أنا خارج الأحساء
متشردٌ حدّ التباس هُوِيّتي
متشردٌ حدّ اشتباه دمائي
وإذا تجاوزتُ النخيل إِخالُني
جاوزتُ في قدَري حدودَ قضائي
في كلّ ناحيةٍ أسير يقودُني
ضدّي على طُرُقٍ بلا أسماءِ
لا شيءَ غير الصدق أحملُهُ معي
فإذا نطقتُ فمُعجمي أحشائي
طرَّز الصحيح قصيدته بتناصٍ بديع، حمل عمق الوعي بالتراث العربي والديني، وعمق المعرفة التركيبية اللغوية، والبيان الفصيح، في معنى مبتكر:
كل النساء أحاديث بلا سند
وأنت أنت حديث لابن عباس
وقال:
ها أنا مفردٌ كركعةِ وِتْرٍ
فاشفعيني لكيْ تَتِمّ الصلاةُ
كما جاس بقصيدته في أعماق الفلسفة، والسؤال في مواطن كثيرة، وقصائد عديدة ومنها:
طَفَحَتْ على سطحِ الكلامِ فقاعةٌ
جوفاءُ يزبدُ فوقَها الهذَيَانُ
ماذَا سيصنعُ بالفقاعةِ ظامئٌ
مثلي.. تجوسُ عروقَهُ النيرانُ؟
فأنا الضحيّةُ ما تصارعَ داخلي
بعضي الملاكُ وبعضيَ الشيطانُ
أعلُو وأهبطُ في حرائقِ حيرتي
فالأرض نارٌ والسماءُ دخانُ
ويقول في قصيدته «الشاعر المتشجر بالكائنات»
كالوقتِ جاءَ.. يدورُ حولَ أناهُ
ويتيهُ في صحراءِ لاجدواهُ
سارٍ إلى اللَّا أينَ.. غايةُ قَصدِهِ
أنَّ القصيدةَ من حقوقِ سُرَاهُ
ما قالَ قَطُّ: (وَجَدْتُهَا).. وَهُوَ الذي
نَشَرَ الوجودَ برأسِهِ، وطَوَاهُ
رأسٌ ينوسُ كشُعْلَةٍ أَبَدِيَّةٍ
تَعِبَتْ بحَمْلِ ظلالِها، كَتِفَاهُ
يشكو.. وكُلُّ الأبجديَّةِ وِحْدَةٌ
لقياسِ عُمقِ الجُرحِ في شكواهُ
والشعرُ بذرتُهُ العزيزةُ.. حيثما
يُلقِيهِ تنبتُ في المكانِ جِباهُ
كالوقتِ جاءَ.. يُشِعُّ مِلْءَ مجازِهِ
من قبل أن يَلِدَ النهارُ ضُحاهُ
أما أغراضه الشعرية فمتنوعة ومتكاملة، فهناك: شعر الأهل والأسرة والوطن:
يقول الشاعر لابنته في ليلة زفافها:
أزفُّها ودموعُ القلب تنسفحُ
أَهكذا يتآخى الحزنُ والفرحُ؟
أَهكذا يا ابنتي ننمو ويشطرُنا
نُضْجٌ؟! فيرحلُ عن أعذاقِهِ، البلحُ
ولُحْتِ في الحسنِ تَسْبينَ الجهاتِ بهِ
سبيَ القلوبِ، وصدرُ الوقتِ مُنْشَرِحُ
فهل تَوَشّحْتِ بالفستانِ زاهية
في سحرِهِ، أم بِكِ الفستانُ مُتّشِحُ؟
وفي رثاء والده يقول:
جفّ المدى يا أبي من كلِّ أَنْجُمِهِ
لم تَبقَ لي نجمةٌ في شرفةِ القَدَرِ
عانيتُ من كِبَري ذئبـًا أصارعُهُ
فكيف أَوْرَثْتَني يُتْمًا على الكِبَرِ
من قبلِ موتِكَ أعوامي مؤَجّلَةٌ
واليومَ أقفزُ للخمسينَ من عُمُري
إحساسيَ اليومَ إحساس الحقولِ غدًا
لو هَأجرت آخر النَّخْلاتِ من هَجَرِ
أبي تعالَ.. ويجري من تعالَ دَمٌ
كأنَّما الجرحُ في قلبِ الحروفِ طري
وياتِ الوطن في عدد من القصائد المذهلة بالصور، والانتماء:
وطني وما كل الأماكن كعبةٌ
تُأتى ولا كل النداء أذانُ
بك آية البلد الأمين تجسَّدت
من قبل أن تتجسد البلدانُ
وقال:
ما أنت يا وطني مجرد طينة
فأصوغها لطفولتي تذكارا
حاشا ولست ببقعة مربوطة
قيد المكان أقيسها أمتارا
بل أنت يا وطني مدى حريتي
في الأرض حين أعيشها أفكارًا
وهنا حدودك في المشاعر داخلي
مقدار ما نحيا معًا أحرارا
أما الغزل، فموضوع الشاعر العريض، ومضماره البديع، وقدرته البلاغية، ومعانيه العميقة، وصوره وأخيلته المبتكرة، التي تحمل هوية لا تكون إلا له، حيث يقول:
أحببتُ عُمْرِيَ في هواكِ كأنّني
أُحصي بمقياسِ الشعورِ سنيني
وحرستُ مرمى الانتظار فلم تصلْ
كُرَةُ السّلُوِّ إلى شِباكِ حنيني
وحضنتُ جرحيَ في الغيابِ فلم أزلْ
أتلو عليهِ محاسنَ السِّكِّينِ
لِيَ من هواكِ هُوِيَّةٌ فكأنَّما
مَنْ صاحَ: يا أهلَ الهوى.. يعنيني!
وقال:
لي رغبةٌ فيكِ لو دُقَّتْ عزيمتُها
في فُلْكِ (نوحٍ) لشَدَّتْ ألف مسمارِ
وانساب في الموج لا يدري بغمرتِهِ
هل فُلْكُهُ واقفٌ أم فُلْكُهُ جاري
كما كتب الشاعر في الرثاء، والمناسبات، والقصائد الدينية، والتأملية.
وما هذه النماذج إلا غيض من فيض الشاعر الملهم، يأتي كل ذلك في جمال الأسلوب، وفصاحة البيان، وروعة التركيب، وغزارة الإبداع واستلهام المعاني.
وتظل اللغة هي أداة الشاعر العظيمة، التي يشكل منها قصائده في علاقة متبادلة بين تحطيم علاقات اللغة وإعادة تكوينها بشعرية عالية وبديعة جعلت لتجربة جاسم الصحح مكانًا متميزًا على مستوى الوطن العربي، وحفرت في المشهد السعودي المعاصر، شاعرًا رائدًا مجددًا، محافظًا على كلاسيكيته، منتميًا لجيله، متجليًا في شعره، لدرجة الدهشة، والإمتاع.
** **
- د. مها محمد العتيبي