أ.د.محمد بن حسن الزير
لم يكن (محمد علي الألباني) القائد في الجيش التركي في مصر ليصل إلى سدة الحكم في مصر لولا ما كان يستخدمه في تخطيطه وسعيه لتحقيق ذلك من دهاء ومكر وغدر بخصومه ومعاونيه في مسيرته الطموحة لاعتلاء ذلك العرش في مصر، وقد حدثنا التاريخ منذ كتابة الجبرتي في (عجائب الآثار في التراجم والآثار) وما تلاه من كتب ودراسات، وهي كثيرة متنوعة، عن هذه الطبيعة الماكرة الغادرة؛ ومنها على سبيل المثال: (عصر محمد علي) لعبدالرحمن الرافعي، والجزء الأول من كتاب (الأزهر جامعا وجامعة) لعبدالعزيز الشناوي.
بدأ طريقه بالغدر والقتل بالتعاون مع المماليك، بعد قتل طاهر باشا الوالي على مصر بالوكالة، وطرد أحمد باشا، وإغراء الجنود الألبان بالفتك بالإنكشارية، ثم مهاجمة الوالي السابق (خسروا باشا) بمعونة زعيم المماليك، ثم مقاومة (محمد بك الألفي) الذي قدم من إنجلترا بأموال ومتطلعاً للاستقلال بحكم مصر بمساعدة إنجلترا؛ ولكن محمد علي نهب أمواله وجعله يلوذ بالفرار هارباً ولجأ إلى العرب المصريين، كما عمل جهده حتى أعاد خسروا باشا إلى الأستانة، ولم يبق أمامه إلا حاكم الإسكندرية (أحمد خورشيد باشا) وهو من كبار العثمانيين الذي يمكن تعيينه والياً على مصر، وبدهاء ماكر، اقترح (محمد علي) على العلماء تعيينه، فوافق العلماء والأعيان والجند على ذلك، وتعيين محمد علي (قائم مقام) له، وتمت موافقة الباب العالي على ذلك عام (1804م) وكان محمد علي يدرك ما سيواجهه هذا الوالي من مشكلات، سبق أن واجهت أسلافه، وأنها ستطيح به، وبالفعل فقد وجد هذا الوالي نفسه عاجزاً عن صرف مرتبات الجند، ولم يجد أمامه حلا لذلك إلا أن يفرض ضرائب باهظة على أهل القاهرة ومنهم المماليك، فزاد غضب الأهالي على الوالي؛ بينما كان محمد علي في الجانب الآخر ضد تلك الإجراءات مظهرا عطفه ورأفته بالأهالي، إلى جانب ما كان يظهره من احترام العلماء وتعظيمهم وبخاصة الشيخ (عمر مكرم) نقيب الأشراف بمصر، الذي كان كثير الزيارة له وإظهار الاحترام والتعظيم، وكان يجلس على الأرض بين يديه و يقبل يده وربما قبل ركبته؛ مما جعله يحظى بمكانة لدى العلماء والأعيان وسائر الشعب، وهو ما حمل الأهالي على أن يطلبوا من الدولة عزل (أحمد باشا) لجوره وظلمه، وجعل ولاية مصر لمحمد علي، فتم ذلك عام (1805م).
ثم ما لبث محمد علي أن غدر بالشيخ (عمر مكرم) ولم يحفظ له ما كان له من يد في توليته؛ بل نفاه إلى دمياط، وخلعه من نقابة الأشراف، متهما إياه أنه يدخل في دفتر الأشراف بعض الأقباط واليهود، مقابل المال، وأنه كان متواطئاً مع المماليك في مهاجمة القاهرة يوم وفاء النيل؛ ولكن السبب الحقيقي هو أن الشيخ (عمر مكرم) أبى أن يوقع على كشف حساب شك في صدق محتواه، أعده محمد علي ليرسله للدولة! وأخذ يتقرب إلى العلماء بإقطاعاته، وتقربوا إليه بموالاته، وهم من سماهم الجبرتي (مشايخ الوقت).
وضمن مسلسل غدره العنيف ما فعله بالمماليك الذين استخدمهم في تحقيق مآربه، ثم أوقع بهم في مذبحة القلعة الشهيرة، التي أجهز عليهم فيها على طريقته اللئيمة القذرة التي اعتاد عليها؛ حيث دعاهم في القلعة إلى الاحتفال الضخم الذي أعده بمناسبة تعيين ابنه (أحمد طوسون) في 1 مارس 1811م قائداً للجيش المتوجه للحجاز وبلاد العرب في مطلع حملته ضد الدرعية، وعندما سار الجميع للاحتفال خلف الموكب بعد تقليد (أحمد طوسون) خلعة القيادة تم استدراج المماليك إلى (باب العزب) حيث أمطرهم الجنود بوابل من الرصاص من جهات مختلفة، ومن نجا من الرصاص لم ينج من الذبح على أيدي الجنود، ولم يتمكن من الفرار سوى (أمين بك) الذي هرب إلى الشام.
ويحدثنا (عبدالله البسام) في كتابه المخطوط (تحفة المشتاق) الورقات في (145-146) عن صورة من صور لؤمه وغدره، وشاركه فيها سليل صفاته وصنوه في الغدر ابنه أحمد طوسون، حينما وصلوا إلى مكة واستقبلهم (الشريف غالب) بالاحترام والتعظيم والتكريم، وأنزل (محمد علي) في «الشامية في بيت (القطرسي) وأنزل ولده (أحمد طوسون) في الشامية في بيت (السقاط) وكان محمد علي يعظم الشريف ويقبل يده ودخل معه الكعبة و(تعاهد معه)..» ثم رسم مع ابنه خطة للقبض عليه وإرساله للدولة «فأظهر أن بينه وبين ابنه منافرة فتوجه ابنه أحمد إلى جدة مُظْهِرا أنه مغاضب لأبيه، وأشيع ذلك بين الناس، ثم كتب أحمد طوسون من جدة للشريف أن يتوسط بالصلح بينه وبين والده وأن يشفع له عنده في حصول الرضا ففعل ذلك الشريف وقبل محمد علي شفاعته، فكتب الشريف لأحمد طوسون يخبره بحصول قبول شفاعته وطلب منه الحضور إلى مكة ليجمع بينه وبين والده، ليتم الصلح بينهما، فتوجه إلى مكة؛ فلما وصل ذهب الشريف غالب إليه في بيته للسلام عليه وليأخذه معه ويجمع بينه وبين والده، وكان أحمد طوسون قد عزم على القبض على الشريف إذا جاء إليه في ذلك اليوم بأمر من والده..» إلى آخر التفاصيل الدرامية التي انتهت بالقبض عليه، وإبلاغ السلطنة بما تم «فورد الأمر من الدولة بأن يكون في سلانيك..».. «وبعد تسفير الشريف غالب نهبت العساكر داره التي بجياد وأخذوا منها أمولا كثيرة وأخرجوا أهله منها بصورة شنيعة..». وفي سنة 1232هـ حين كان (طوسون) في المدينة أمره والده بأن يتوجه بمن معه من العساكر إلى نجد، وفي القصيم وقعت بين عبدالله بن سعود وعسكر الترك عدة مقاتلات، ثم كان الصلح، ورحل طوسون إلى مصر، وبعد معركة (مُحرِّش) انتقض ذلك الصلح.
ومثل الباشوات الأب محمد علي والأخ أحمد طوسون كان (إبراهيم باشا) قائد حملة العدوان التركية على دولة الدرعية السلفية، يسير على منوال الغدر والجريمة؛ فقد أخذ محمد علي مع ابنه (إبراهيم باشا) بعد وفاة ابنه (أحمد طوسون) سنة (1231هـ) يجهز العساكر ويعد جند الحملة على نجد لمحاربة (عبدالله ابن سعود) حيث قد المدينة، وتوجه منها إلى الحناكية، وجمع كثير من العربان، وفي سنة 1232هـ التقي عبدالله بن سعود في (ماوية) التي نزل بها العسكر ومن معهم من العربان بقيادة (علي أزمن) وكان (عبدالله) قد ترك ثقل جيشه في (خبرا أنجح) وصار بينه وبين عسكر أزمن قتال شديد ولقلة ما معه جنود كانت الهزيمة على جيشه، وقتل من قومه نحو مائتي رجل، وتوجه إلى عنيزة، ولما تم صلح أهل الرس مع (إبراهيم باشا) تفرقت البوادي عن (عبدالله) الذي جعل في عنيزة عدة رجال بقيادة محمد بن حسن بن مشاري بن سعود، وفي بريدة جعل إبراهيم بن حسن بن مشاري بن سعد أميراً، ثم ارتحل إلى الدرعية؛ وأما الباشا، فقد نزل بلد عنيزة، وامتنع عليه المرابطون في قصر الصفا؛ فرماهم بالمدافع إلى أن طلبوا منه الأمان على دمائهم وسلاحهم، فخرجوا من القصر الذي أمر بهدمه، ثم سار إلى بريدة، ثم المذنب، ثم الوشم، ونزل أشيقر، ثم شقراء فحاربه أهلها ثم حصل الصلح معهم، وتوجه إلى ضرما فحاربوه، ثم أخذها عنوة، بعد أن أبلى أهلها بلاء حسنا في قتال جيش الباشا، ثم توجه إلى الدرعية.
وللحديث صلة،،،