فيصل خالد الخديدي
الإنسان بطبعه كائن اجتماعي يعيش في تفاعل دائم مع محيطه، وإبداعاته عادة ما تكون مرتبطة بالإنسان مادة الحياة ومداده بكل حالاته وقضاياه، والعزلة الوقتية هي من طقوس بعض المبدعين أثناء ممارستهم لحالة الخلق الإبداعية التي يختلي فيها مع منجزه الإبداعي، وقلة من المبدعين اختاروا عزلتهم الدائمة وابتعدوا عن مجتمعاتهم وعاشوا الإنسان ومعاناته في عالمهم المتخيل بعيداً عن الواقع فخرج إنتاجهم من أقبية العزلة محملاً بشيء من السوداوية والتشاؤم وربما النقمة على مجتمعاتهم وعلى من حولهم.
وعند الحديث عن عزلة الفنان عن محيطه وتعايشه معها وتغلبه عليها واستمرار إبداعه في حال عزلته الإجبارية بشكل مميز وحيوي، تأتي الفنان المكسيكية فريداً كاهلو التي عانت في محطات عديدة من حياتها من ظروف صحية قاهرة كان من أكثرها قساوة حادث مروري تسبب لها بكسورٍ في العمود الفقري والحوض بقيت بسببها في المستشفى لأسابيع ثم عادت إلى المنزل لتظل طريحة الفراش لمدة عامٍ وأمام هذا الحدث الأليم والمعطل لقدرات كثيرة يعتمد عليها الفنان، صمدت وتعايشت مع الوضع الإجباري الجديد، وساندتها والدتها في ذلك وسعت لراحتها وإمدادها بالسعادة فيما تحب من رسم وإنتاج فني فوفرت لها سريرًا متحركًا ومرآةً ضخمة في سقف غرفتها، وكانت فريداً ترى وجهها طوال الوقت فبدأت بممارسة الرسم والتلوين وشرعت يوميًا في رسم صورتها، فكان المتنفس الوحيد لها في عزلتها الإجبارية المؤلمة وأنتجت أعمالاً خالدة في مسيرة الفنون التشكيلية العالمية خرجت بصدق من رحم المعاناة وأشبعت شغفها للفن والتعبير به في أحلك الظروف. ومن الأعمال المهمة للفنان إدفارد مونك بعد الصرخة يأتي عمله الذي نفذه بعدما نجا من جائحة الإنفلونزا الإسبانية، رسم فيها صورة ذاتية أثناء عزلته وقت المرض وأطلق على العمل اسم (لوحة روحية) ظهرت شخصيته هزيلة وذابلة وسط ألوان حارة ومتضادة.
ومع العزلة التي يعيشها العالم أجمع أمام جائحة فايروس كرونا هذه الأيام يقف الفنانون مواقف متباينة في تعاملهم مع العزلة، فمنهم من عاشها كسجن لحريته مشتتة لتفكيره وطمأنينته ومبددة لحالته الإبداعية فالوضع بالنسبة له قلق والرؤية غير واضحة والأزمة انتقلت من واقع العالم إلى عالمه الإبداعي الخاص فشتته وضاقت به حلوله الإبداعية في التعامل مع الأزمة وعزلته، ومنهم من امتطى الأزمة بسطحية وأنتج أعمال توعوية مدرسية لا ترقى لأن تكون أعمال فينة، والفئة الأقل من الفنانين هي من تحاول الاستفادة من الازمة وأوقات العزلة في التوسع المعرفي والثقافي والتقني والاشتغال على إنتاج مشروع فني عميق يعايش اللحظة ويتطلع لما بعد الأزمة.