د. إبراهيم بن محمد الشتوي
وهنا نصل إلى قضية الشواهد في كتابة تاريخ الأدب، فالشواهد ينبغي أن تكون شواهد وحسب، بمعنى أنها ليست هي الظاهرة، وإنما تعبر عن وجود الظاهرة، فهي بمنزلة تمثيل عدد كبير من النماذج المماثلة، وقد يختارها الباحث لأنها أكثر الشواهد تمثيلاً لتلك الظاهرة، والتي تتنوع بحسب الظاهرة التي يراد الاستشهاد عليها فقد تكون حكاية، أو أبيات شعر أو وثيقة تاريخية.
وأما الإحصاءات والأرقام والجداول، فقد تكون نوعاً من الشواهد، ولكنها في الأصل نوع من طرائق عرض المادة العلمية بتحويل الظاهرة إلى أرقام، والاعتماد على المنهج الكمي، بمعنى يكون سؤال الكم هو السؤال المعتمد في تفسير الظاهرة وفهمها.
وهذا يعني أن كاتب تاريخ الأدب لا بد أن يسبق كتابته الأخيرة بقراءة عميقة للمادة العلمية التي يريد أن يتحدث عنها سواء كان عصراً أو كان موضوعاً، وقضية، وبعد القراءة يحدد القضية التي يريد أن يكتب عنها.
ومن الممكن أن يصوغ هذه القضية على طريقة الفرضية، ويتبعها بالأسئلة التي تسعى الدراسة إلى الإجابة عليها مما تتطلبه الفرضية للتحقق من الصحة أو النفي.
فإذا كان يريد أن يتحدث عن الغزل في عصر بني أمية، فمن الممكن أن يبني الدراسة على أنه يفترض أن الغزل شائع في عصر بني أمية كما هو الحال في الغزل فيما قبل الإسلام بناء على القول أن عصر بني أمية يعد ردة إلى ذلك العصر، ومن هنا سيفترض أهمية هذا الغرض، وسيبني أسئلته عن وجود الغزل في عصر بني أمية، وعن موضوعات الغزل وأنواعه موازنة بينه وبين العصر السالف الذكر والفرق بينهما، وهو ما يعد في سؤال التجديد.
وهذا يعني أنه لأجل أن يتحقق من هذه الفرضية ويجيب على الأسئلة لا بد أن يقرأ الشعر في العصر المحدد، ويستخرج شعر الغزل منه، ثم يوازنه بسائر أنواع الشعر في الحقبة من حيث الكم ثم قيمته بالنسبة لكثرته، ثم يقف عند أنواعه، والمعاني التي استعملها الشعراء فيه ومقدار التجديد والتقليد، وأهم شعرائه، وبما استحقوا هذه الأهمية.
وهنا يأتي السؤال أين التأريخ؟ اعتاد طلاب الدراسات العليا عند كتابتهم أبحاثهم وهم يستعملون المنهج التاريخي أن يقدموا للموضوع أحياناً بفصل وأحيانًا بالتمهيد عن الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة بالشاعر أو الموضوع حتى يحقق القارئ نبذة عن ذلك العصر، ويربط بين ما سيقرؤه لاحقاً وما يقرؤه في هذا الفصل.
وبناء على التعريف الآخر، وهو أن تاريخ الأدب هو دراسة الأدب في حقبة تاريخية معينة باستعمال المنهج التاريخي، فإن الأمر قد يكون كافياً بهذه الصورة، إلا أنه قد لا يكون كذلك إذا كان الدارس يريد أن يربط الشعر في موضوع الدراسة في الشعر في الحقبة المدروسة، ليس من زاوية البعد التاريخي الصرف الذي أصبح أمراً بالياً بعد ظهور الشكلانية وما تبعها من المناهج النصية بوصفه كان يفيض في القصص والأخبار عن الشعر وما قيل عن الشعراء في تلك الحقبة، وإنما بمحاولة استنباط تأثيره في المتلقين في ذلك العصر، وتأثير المتلقين فيه، وربطه في ذوق العصر، وموازنته بالشعر في الحقبة التي قبله.
إضافة إلى الاعتماد على البعد التاريخي في قراءة المادة، وتأثير الزمن عليها سواء لدى الشاعر الواحد أم الشعراء أجمع ما يعني تتبع التطور التاريخي لغرض الغزل في عصر بني أمية من أيام معاوية إلى أيام مروان بن محمد أي على امتداد تسعين عاماً، ورصد التغيرات التي أصابته خلال هذه المدة، ثم البحث عن تفسير لهذا التطور في الشعر في الظروف التاريخية المحيطة بالشعر والشعراء، وكلما كانت الأحداث متصلة بالشعر والشعراء اتصالاً مباشراً كانت أصدق في تفسير الظواهر الأدبية والأسباب التي أدت إلى تحولاته، في حين أن الأسباب العامة قد تكون مؤثرة لكنها لا تدل على قراءة حقيقية للعصر إلا إذا كانت لتقديم قراءة عامة أو فهم القراءة التفصيلية وصلتها بمحيطها، ويمكن أن يدرج القول فيها تحت طائلة الحديث الإنشائي، خاصة إذا كان ارتباطها بالظاهرة من ارتباط اللازم وليس المباشر.
على أنه من المهم عند التعامل مع الشواهد أن نفرق بين نوعين من التعامل: الأول يقوم على إصدار الأحكام، ويقوم الثاني على التفسير والتأويل، والحديث عن نوعين من المناهج درج الباحثون على الحديث عنهما وهما المنهج الاستنباطي والاستقرائي.
المنهج الاستقرائي يقوم على البداية من الخاص (النموذج) والانطلاق للكل أي إصدار الأحكام العامة، والاستقراء ينطلق من الكل ثم يخلص إلى إصدار حكم خاص، وهما منهجان معروفان والحديث فيهما طويل.