في شريط سينمائي قديم نسبياً، تجري الأحداث في نزلٍ جبليّ وسط منطقة ثلجية لا يزايلها الجليد طيلة العام. ينتهي موسم النزل أواخر الصيف ويغادره حتى العاملون فيه. وحين نشأت الحاجة إلى من يقيم في النزل لمراقبة تجهيزاته طيلة فصلي الشتاء والخريف، فقد أبدت أسرة صغيرة تتكون من زوجين وطفل صغير استعدادها للبقاء هناك مقابل مبلغ مالي مجزٍ. وفي المقابل فقد تم توفير كل مستلزمات الراحة والأثاث الوثير مع وفرة متنوعة من الأطعمة والأشربة ومكتبة غنية بمصادر المعرفة. عاشت الأسرة أيامها الأولى بشيء من المتعة لكنها سرعان ما غمرتها مشاعر العزلة والانقطاع عن العالم، ودخلت في معاناة نفسية باتت تتأزم تدريجياً، انتهت بانتحار الأب، ومن ثم العثور لاحقاً على جثتي الأم والطفل متجمدتين، خارج النزل، في محاولة يائسة للخروج من نفق العزلة القاتل.
تلك كانت عزلةً طوعية مدمرة لعائلة مدنية، في حين أن سكان المناطق الجليدية، أو تلك التي تغمرها الثلوج لشهور طويلة، يعيشون في الغالب عزلةً قسرية متكررة، تطول أو تقصر، دون أن تؤدي إلى ردود أفعال متطرفة. ومع ذلك فإن هناك حالات من الاكتئاب والانكفاء على الذات والصمت المَرضي لدى أفراد هذه المجتمعات المنعزلة عن بعضها. ووفقاً لتقارير الأكاديمية الأمريكية لطب الأسرة، فإن ما لا يقل عن نصف مليون مواطن أمريكي في المناطق شديدة البرودة، يعانون من اضطراب العواطف الموسمي.
إنه شبيه بالبيات الشتوي لدى بعض الكائنات الحية التي تقضي فترة الشتاء في سبات عميق، ضمن بيئة دافئة، أو فيما يشبه «الغيبوبة الوجودية» إن صح التعبير. إلا أن هذا السلوك الحيواني، باعتباره عملاً غريزياً، لا يؤدي عادةً، إلى تأثيرات سلبية على نمط حياة هذه الكائنات.
ماذا عن البيات الوبائي إذن؟، والعالم يعيش جواً محموماً من الحجر الصحي والعزل الاجتماعي وإغلاق الحياة العامة والعطالة شبه التامة وتوقف وسائل السفر ومعظم وسائط المواصلات.
من الواضح أن المؤسسات الحكومية تبلي بلاءً حسنًا في التعامل المادي والإجراءات الصحية والوقائية، كما على الصعيدين الأمني والاقتصادي. لكن آثار هذا العزل وتوقف الأعمال والتباعد الاجتماعي للأسر والجماعات، لا يبدو محل نظر ودراسة كافية، في كل المجتمعات، على مستوى الصحة النفسية والعاطفية للفرد ولا على السلوك الاجتماعي بصورة عامة.
إن البشر، حتى في أكثر المجتمعات استعصاءً على الانقياد والانضباط ميالون إلى حماية أنفسهم من الأخطار، خصوصاً الخفية منها، مثل الأمراض والأوبئة، ويدخلون طوعاً أو انصياعاً في بيات شامل رغم قسوة المعاناة. يقول ألبير كامو في روايته الطاعون: «استمر الطاعون خلال شهري سبتمبر وأكتوبر يمسك بالمدينة منطوية على نفسها». ورغم هذا الانطواء الطوعي على أمل الانحسار السريع للوباء، فإنه يضيف قائلاً عن فترة التباعد: «إذا كان أكثر الناس تشاؤماً قد حددوها بستة أشهر فقد كان يحدث أن يوحي إليهم صديق عابر أو إعلان في جريدة أو مجرد ظن طارئ بأنه ليس هناك ما يؤكد أن المرض لن يستمر أكثر من ستة أشهر بل قد يمتد إلى سنة وربما أكثر». وإذا كان المرضى وضحايا المرض (الوباء) هم حالات ملحوظة وفي يد الرعاية غالباً، فإن التداعيات النفسية والعاطفية للعزل الاجتماعي قد تكون بعيدة عن الرصد فضلاً عن المعالجة في كثير من المجتمعات.
يشير أحد التقارير إلى أنه رغم مرور أقل من شهر، منذ فرضت الحكومة الإيطالية الحجر الصحي الوطني، فإن الضغط على الصحة العقلية للناس بدأ يظهر. وفي بريطانيا، حيث أصدرت وكالة الصحة العامة الحكومية، مجموعة من المبادئ التوجيهية حول «جوانب الصحة النفسية»، وُجد أن 62 % من البريطانيين يجدون صعوبة في أن يكونوا إيجابيين بشأن المستقبل مقارنة بما شعروا به قبل تفشي المرض. في حين يقول أندرو كومو، حاكم نيويورك، الولاية الأكثر تضرراً في أمريكا: «يعاني الناس من العواطف بقدر ما يعانون مع الاقتصاد». مما دعاه لإنشاء خطٍ مجاني ساخن لأولئك الذين كانت صحتهم العقلية تعاني.
من هذه الإشارات القليلة يمكن أن نلحظ ما قد يعانيه الناس المتباعدون، بصمت، من مشاعر التوتر والقلق، بالرغم من تفاوت المجتمعات في تكوينها الثقافي وخبراتها المتنوعة في التعامل مع ظروف الكوارث والأزمات. إذ هنالك شرائح من المجتمع ينبغي الالتفات إليها بكثير من العناية الجادة، ليس لغرض العلاج من الفيروس أو التحصين ضده وتفاديه، وإنما لامتصاص الآثار التي قد يولّدها في نفوس وعقول من يقعون تحت طائلة الخوف من الفيروس والاحتياطات المفروضة لتوقّيه.
ولعل أولى هذه الشرائح هم العاملون في الحقل الصحي، فهم ما بين القلق من العدوى بحكم احتكاكهم اللصيق بالمرضي، وبين ابتعادهم الطوعي عن أقرب الناس إليهم، خشية من نقل العدوى وإيذائهم. إنها ثنائية مقلقة تجمع بين المخالطة المكثفة مع المرضى، والاحتراز الصارم مع الأصحاء، فما هي البرامج المتاحة للتعامل مع المعاناة الصامتة لهذه الشريحة المتفانية؟.
وإذا كان هنالك شريحة عريضة قد تعاني من فقد الوظائف أو تعثّر مشروعاتها الاستثمارية، وتم أخذها في الحسبان، كلياً أو جزئياً، من خلال برامج التعويض الحكومي المعلنة، فإن شرائح أخرى خارج هذا السياق ربما تكون الأحوج للالتفات إليها ورصد معاناتها. إن شريحة كبار السن مثلاً ستفتقد اللقاءات العائلية ومتعة الاجتماع بالأحفاد، في ظل التشديد الرسمي بعدم مخالطة الكبار وحجب الصغار عنهم. وفي المقابل فإن الأطفال لن يتمكنوا من استيعاب هذا الانقطاع المفاجئ وحرمانهم من لحظات البهجة التي يستمتعون بها مع أقربائهم ونظرائهم الصغار.
إن هاتين الشريحتين بالذات هما الأكثر احتياجاً للمتابعة، فكبار السن هم الأقل تعبيراً عن الشكوى والأكثر اختزاناً للمشاعر، بينما الصغار هم الأقل استيعاباً والأكثر تذمراً. وإذا امتد زمن التباعد لفترة أطول، فإن جهداً إضافياً ينبغي بذله بكثير من العناية والجدية للتعامل مع غير المصابين بالفيروس، قد يفوق الجهود المبذولة لعلاج المصابين به.
لا تزال المؤسسات الحكومية، مدعومة بالقرارات السياسية، تحقق المزيد من النجاحات في الحقول الصحية والاقتصادية والبلدية والأمنية، وهي حتماً قادرة على تحقيق النجاح المأمول في هذا الحقل المسكوت عنه، حتى الآن، لتفادي أي خلل في مستوى الصحة النفسية والعاطفية لعموم أفراد المجتمع.
** **
- عبدالرحمن الصالح