الموروث الشعبي لم يكن يوماً من الأيام أحد الهوامش، بل هو متن للظهور بالآداب واللغة إلى العالمية فالصين مكون اجتماعي يغرق في التنوع الابستملوجي الذي يختلف من مدينة إلى أخرى لذلك لم يكن من السهل أن يرتقي بعضهم بمدينته النائية أو القرية البعيدة إلى مصاف الشهرة ليتعرَّف عليها العالم من خلال رواية أدبية أو حادثة معينة إن لم يكن ذلك العمل خارق للإبداع، كل شيء له قيمة فلا تحتقر عملك مهما كان!
كانت الذرة القاسم المشترك والشاهد على أحداث قصة مويان الصيني الحائز على جائزة نوبل للآداب سنة 2012م عن روايته (الذرة الرفيعة الحمراء) والحائزة في مهرجان برلين على جائزة الدب الذهبي ومويان أحد رواد الأدب الواقعي كروائي لم تغب عن ذهنه لحظات المقاومة الباسلة للفدائيين الصينيين ضد الاحتلال الياباني آنذاك .فبين الصراع والمعارك والقتل والتعذيب محتدم على أشدّه الذي مارسه اليابانيون في حق الصينيين إبّان الفترة ما بين الثلاثينات حتى انقضاء الحرب العالمية الثانية! تبقى الذرة الملهم المر والعنصر الحاضر في العقل الباطني أو اللا شعوري للرعب الذي أصبح الهاجس الوحيد لذلك الغلام الريفي الذي يسكن في قرية دونغ بي والذي يذكّره بالمحتل الياباني القادم من الشرق! وهو ما يسمّى في علم النفس (بنظرية القمع) وتتطور فيما بعد إلى (الأفكار المتطفّلة)، حيث تتزامن الأحداث وتزدحم حبكة التراجيديا بقسوتها وتفنى الرجال وتبقى الذرة حية كلما نظر إليها فتى القرية اليافع رأى فيها أوجه المحتلين الذين أفنوا أسرته وحصدوهم كالذرة المهجّنة والتي تُحصد فيما بعد كاقتران الحدثين وتشابههما في مخيّلة ذلك الفتى الذي أُودع البئر خوفاً من أن تحصده فرق الإعدام اليابانية، وكانت فيها النظرة الأخيرة التي رُمق بها من جديه! وهم يخبئون للزمن المستقبل الذي سيحكي للأجيال قصة كفاح الأبطال! وهي بعد مقارنة عقلية احتفظت بها ذاكرة الصبي الصغير ابن القرية التي أعادت زراعة الذرة إكراماً له!
الحروب والصراعات يتولّد من رحمها القوة والضعف الذي يرتضع من ثدييهما الزيف بمشتقاته السياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني أيضاً! المسمّى بالنفاق الإيديولوجي والذي خلق أجواء فشارية سرعان ما تذوب حين تمضغها حوادث الزمن وتنكشف حقائق كنّا بالأمس نوّما! ثم إنه يرجع كحال الحبة الخربة وقد انتهت صلاحيته! هل هي الحياة بكل مظاهرها الزائفة الحديثة أفرزت هذا الكم الهائل من الغش والخداع؟! فالصراع على السلطة أفرز صراعاً آخر ملؤه الجشع وحب السيطرة مما جعل اليابانيين بلداً محتلاً فترة طويلة من الزمن للصين التي ظلت تقاوم بسلاحها وسنانها حتى ظفرت بالنصر وهذه أحد الدروس المنتقاة من رواية مويان وهو الصبر والجلد والتحمّل في سبيل الأرض حتى ولو تأخر ذلك الانتصار قليلاً! وتبقى تلك المقاومة ومويان يحكيها على لسان أفراد القرية الذين سردوا له حكاياتهم ومغامراتهم ومقاومتهم في وجه العدو المحتل المتدثر بثياب الحرب من أب وأم وجد وجدة وزوجة الجد الأخرى حكاية أسطورية واقعية لتبقى الذرة رمزاً لتلك المقاومة ورمزاً للتقاليد والعادات الصينية والتي لم تُنس في ظل الاحتلال بل ظلت تقاوم هي أيضاً كعنوان للفلاح الصيني الأصيل الذي لا تغيره الأحداث حتى مع القهر والاستبداد السياسي والعسكري في حين كان هناك في مكان آخر من تخلى عن قيمه وأصوله وتراثه لكي تظل الذرة الرفيعة الحمراء تحفر في ذاكرة الأرض الصينية كعلامة لا يجب أن ينساها كل صيني يدرك أن الحرية إنما تمر عبر بوابة المقاومة وعندما يرى الذرة الرفيعة الحمراء فإنما يرى المقاومة الباسلة التي أخرجت المحتل الياباني من بلاده!
** **
- أحمد بن حمد السبيت