ترد الجملة الاسميّة (بيننا عيش وملح) في بعض لهجات الخليج العربي الدارجة في سياق العتاب بين الأصدقاء، وكنتُ أفهم من هذه الجملة أنّ المقصود الكناية عن عمق العُشرة بين الأصدقاء، وكنتُ أظنّ أنّ الملح في هذه الجملة بمعنى ملح الطعام الذي يعرّف علميًّا بأنّه «كلوريد الصوديوم يُستخرَج بأكثريّته من مياه البحر بعد ترقيدها وتبخيرها في الملّاحات ثمّ معالجة بلّوراتها في مجافَّ خاصّةٍ»(1)، وكنتُ أتساءل: ما الصلة بين العيش(2) بمعنى الحياة وملح الطعام؟ ثمّ وقفتُ عند أبي بكر الأنباريّ (ت328هـ) على مَثَلين من لغة العامّة يدلّان على معنًى مقاربٍ لهذا الاستعمال هما: بين الرجلين ممالحة، وفلان لم يحفظ الملح، قال أبو بكر «قال الأصمعيّ: معناه بينهما رَضاع، يقال: قد ملحتْ فلانة لفلان إذا أرضعَتْ له، ومن ذلك الحديث الذي يرويه ابن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه: (أنّ وفد هوازن أتوا النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- يكلّمونه في سبي أوطاس وحنين، فقال له رجل من بني سعد بن بكر: يا محمّد، لو كنّا مَلَحْنا للحارث بن أبي شمّر أو للنعمان بن المنذر، ثمّ نزل منّا منزلك هذا منّا لحفظ ذلك لنا، وأنت خير المكفولين، فاحفظ ذلك)، وذلك أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- كانت دايته من بني سعد بن بكر، وقال الأصمعيّ يقال: فلان لم يحفظ الملح أي: لم يحفظ الرضاع»(3) (4)، وهذا المعنى مدوّن في بعض المعجمات اللغويّة في مادّة (م/ل/ح)، نحوُ: قول ابن سيده (ت458هـ): المِلْح: الرضاع، ومَلَحَ: رضع(5)، وقول ابن منظور (ت711هـ): الملح هو الرضاع(6)، وانفرد الزبيديّ (ت1205هـ) -بحسب ما راجعتُ من معجمات- بوصف استعمال مِلْح بمعنى: الرضاعة بأنّه من باب المجاز(7).
ومن هذا الاقتباس السابق من أبي بكر الأنباريّ، يتبيّن أنّ المعنى المقصود - كما يبدو لي - من جملة (بينَنا عيشٌ وملحٌ) أنّ بيننا عشرةً حيويّةً وأخوّةَ رضاعٍ، وهذان الأمران يدعوان إلى طيب المعشر واستمراره بين الأصدقاء، وهذا التعبير من باب الكناية، وليس على سبيل الحقيقة؛ لأنّ الأصدقاء غالبًا ليس بينهما أخوّة رضاع، ولكن عُبِّر بها لشدّة ما بين الأصدقاء من الإخاء في العشرة، ولا يعدو هذا التفسير إلا أن يكون اجتهادًا منّي في استنطاق دلالة المقولة العاميّة المعاصرة (بيننا عيش وملح) بما يماثلها في عاميّة التراث، وذلك في قول العرب: (بين الرجلين ممالحة، وفلان لم يحفظ الملح).
... ... ...
الحواشي:
(1) الجُرّ، خليل، لاروس المعجم العربيّ الحديث، مكتبة لاروس، باريس، فرنسا، 1973م، ص 1152، مادّة (م/ل/ح).
(2) قال الزبيديّ: ومن معاني العيش ما ذكر ابن دريد: العيش معناها الطعام، وهي لفظة يمانيّة، وقال الزبيديّ أيضًا: ربّما سمَّوا الخبز عيشًا، وهي لفظة مضريّة، قلتُ: وتسميّة الخبز عيشًا مستعملة الآن في اللهجات المصرية المعاصرة، وعلى هذين المعنيين، وهما أنّ العيش يطلق على الطعام أو الخبز تكون المناسبة ظاهرة بين العيش وملح الطعام. انظر: الزبيديّ، محمد بن محمد المرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: مصطفى حجازي، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، الطبعة الثانية، 1397هـ/ 1977م، جـ17، ص283، مادّة (ع/ي/ش).
(3) الأنباريّ، أبو بكر محمّد بن القاسم: الزاهر في معاني كلمات الناس، تحقيق: حاتم الضامن، مؤسسة الرسالة ناشرون، دمشق، سوريا، الطبعة الثانية، 1432هـ/ 2011م، جـ1، ص285
(4) انظر الأنباريّ، أبو بكر محمّد بن القاسم: المذكّر والمؤنّث، تحقيق: محمّد عبد الخالق عضيمة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، القاهرة، مصر، 1435هـ/ 2014م، جـ1، ص573، (باب ما يؤنّث من سائر الأشياء ولا يذكّر).
(5) انظر ابن سيده، عليّ بن إسماعيل: المحكم والمحيط الأعظم في اللغة، تحقيق: عائشة عبد الرحمن، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، الطبعة الأولى، 1377هـ/ 1958م، جـ3، ص289، مادّة، (م/ل/ح).
(6) انظر ابن منظور، محمّد بن مكرم: دار صادر، بيروت، لبنان، جـ2، ص605، مادّة (م/ل/ح).
(7) انظر الزبيديّ، محمد بن محمد المرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق: عبد السلام هارون، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، الطبعة الثانية، 1415هـ/ 1994م، جـ7، ص137، مادّة (م/ل/ح).
** **
- فهد بن عبدالله الخلف