د.محمد بن عبدالرحمن البشر
في الأندلس، وحول مأساة المورسكيين، ربما يكون استجلاب التاريخ والحقد من أجله، سببًا لما أصاب جزءًا رئيسيًّا فاعلاً في المجتمع الإسباني من مصائب. وقد يكون الزهو والإيمان بالتفوق العرقي سببًا إضافيًّا لذلك. وقد تكون خشية المنافسة دافعًا آخر، ويعني التطرف الديني، واتخاذ موقف من الطرف الآخر لأجله، أو استخدامه كأداة وعاملاً حاسمًا وأساسيًّا في صنع ذلك الشرخ المجتمعي.
بعد مرور مائة عام على سقوط غرناطة عام 1492 ميلاديًّا، وفي نهاية القرن السادس عشر، والملك فيليب الثالث متربع على كرسي ملك إسبانيا. وبعد قصص كثيرة، وآلام، كان ضحيتها ما بقي من مسلمين تمت هزيمتهم على مراحل عبر مئات السنين، نجد عجائب وغرائب لأفكار، تم طرحها للتخلص ممن بقي من أعداد محدودة من المورسكيين الذين أُجبروا على التنصر، وكان الباب مفتوحًا على مصراعيه لطرح أفضل السبل وأقلها كلفة مالية؛ فلم تكن القيود الإنسانية حاضرة في تلك الفترة.
من عجائب تلك المقترحات أن يُحمل المورسكيون على سفن بلا أشرعة، يتم أخذها إلى البحر، ثم تخرق لتغرق بهم! لكن ذلك يتطلب سفنًا كثيرة، وإنفاق مال دون ضرورة. وهذا الاقتراح قد طُرح عام 1581 - 1582 ميلاديًّا، ولم يؤخذ به، لكنه ظل يعاود الظهور بين فترة وأخرى.
مقترح آخر، لا يقل غرابة عن صاحبه، طرح في عام 1597 ميلاديًّا من قِبل أحد الأساقفة، وهو أن يُحمل المورسكيون على ظهور السفن، ويُنقلون إلى العالم الجديد، حتى إذا ما وصلوا منطقة كيب كود في أمريكا يُتركون هناك، وينقرضون في المناخ القاسي، وتراقبهم الحامية العسكرية هناك للتأكد من انقراضهم. ولا أجد منطقًا في هذا الطرح الغريب؛ فإذا كانت الغاية إفناءهم فلماذا تكاليف النقل، وعناء الضحية والقائم عليها؟! وأقول على لسان المورسكيين «فأنجز بربك قتلي إذا كنت قاتلي»، لكن - كما هي العادة - بعض رجال الدين يلجؤون إلى طرح مخرج لتبرير ما يريدون تنفيذه، لكنه يتعارض مع ما هو مسطَّر في الكتاب المقدس. وهذه المخارج والأقنعة مورست على مَرّ الدهور من قِبل بعض رجال الدين لتحقيق مآربهم، أو مآرب حكامهم.
هناك اقتراح آخر أبعد ما يكون عن الإنسانية، لكنه لا يؤدي إلى القتل، وذلك من خلال خصي الرجال، وتعقيم النساء، بصفة جماعية. وانتشر هذا الاقتراح بين المورسكيين بعد أن تسربت إليهم أنهم سيُخصَون. ومن ضمن أساليب الخصي المقترحة وضع كريات من نار في الأعضاء الجنسية للرجال، فتُحرق؛ ولا يستطيعون الإنجاب. ومثل ذلك يوضع للنساء. ولا شك أن المسؤولين السياسيين والدينيين لدى الملك فيليب الثالث يرون أن ذلك رحمة بهم؛ فقد منحوا لهم بالبقاء بدلاً من القتل، مع عدم الإنجاب حتى ينقرضوا. والحقيقة إن الخصي معروف ومعلوم منذ آلاف السنين لدى شعوب وثقافات العالم، كما في الصين أو البلاد العربية وإفريقيا وأوروبا وغيرها؛ لأسباب مختلفة، لكن لم أقرأ أن خصيًا جماعيًّا لفئة معينة من المجتمع تم تنفيذه للخلاص منها مع كونها تدين بالدين نفسه، وتعمل وتجتهد وتنتج، ولا تقترف من الأعمال الإجرامية أكثر من غيرها من الفئات! رغم أن معاملة المسلمين لليهود والنصارى عندما كانوا يحكمون الأندلس وضّاءة ورائعة؛ فلم يجبروهم على ترك دينهم، وولوهم المناصب العليا دون تمييز، لكن التعصب الديني والعرقي والثقافي كان وراء اضطهاد المورسكيين.
كانت هذه المقترحات الغريبة مطروحة على أعلى المستويات، ومتداوَلَة بين العامة، بمن فيهم المورسكيون؛ ولهذا فإن المورسكيين عاشوا تحت وطأة الخوف والهلع وانتظار تنفيذ أمر ما يقتلعهم من ديارهم وبيوتهم وأصحابهم، والقضاء عليهم، أو طردهم من أرض سكنوها ثمانمائة عام، أرض الآباء والأجداد، الذين جاؤوا فنشروا فيها العلم، وصدَّروه إلى سائر أوروبا. يبدو أن مقترح الخصي هو أقل تلك المقترحات الغريبة؛ لأنه على أقل تقدير يُبقي على الحياة، مع فَقْد الإنجاب، لكن المورسكيين يعلمون أن بقاءهم بعد خصيهم لن يكون مرحبًا به، وربما يُستخدمون كعبيد في المزارع والبساتين والصناعات والمهن التي يتقنونها.