د. محمد عبدالله العوين
لا نتخيل الوجه الآخر الإيجابي لجائحة كورونا المؤلمة.
لقد أصبح العالم اليوم أنقى وأبقى وأزكى وأكثر صحة من قبل بسبب هذا الوباء الذي عمَّ وطمَّ العالم كله؛ فقد أصبحت السماء خالية إلا ما ندر وفي حالات استثنائية من الطائرات التي كانت تملأ فضاء الكرة الأرضية، لقد نزلت الطائرات من السماء وجثمت على الأرض، حتى ضاقت بها المطارات والساحات؛ فاستأجرت الشركات مرابض واسعة لطائرتها الجاثمة.
اغتسل الفضاء الواسع من عودام الطائرات ومخلفات احتراق مكائنها الضخمة، واستراح الفضاء من هدير وضجيج محركاتها وأزيز مراوحها وشارات بثها الإلكتروني واتصالاتها الفضائية بمراكز الإرسال والاستقبال في المطارات.
يا ترى كم كسب الإنسان بعد جثو الطائرات على ركبها في المطارات من هواء نقي سليم من العوادم القاتلة؟
كم تنفست أشجار، وتطهرت أنهار، وحلّقت طيور، وتكاثفت غيوم، ورق سحاب، وصفت سماوات وعذب قطر ومطر بعد أن اغتسلت السماء من التلوث؟!
أما على الأرض؛ فما أغنى وأسخى ما منحه كورونا سطح الكرة الأرضية كلها من نظافة وجمال وهدوء.
توقفت السيارات والقطارات أو كادت ساعات وأياماً وأسابيع عن الدوران في شوارع المدن وطرقها الطويلة بسبب وبغير سبب، لضرورة ولغير ضرورة ملحة في كثير من الأحيان.
لنتخيل كيف أصبح العالم نقياً نظيفاً هادئاً بعد أن تجلَّت السماء بتكوينها الطبيعي دون تلوّث، وبعد أن اغتسلت الأرض من مخلفات احتراق البنزين والديزل وذوبان ذرات المطاط على خطوط الإسفلت في آلاف المدن والقرى بست ومائتي دولة على وجه الأرض!
لنتخيل كيف غنم الإنسان صحة رئتيه وسلامة شمه وقوة نبضه ونقاء دمه بعد أن توقف سكب أطنان المحروقات في الطرق المسفلتة التي تعبرها ملايين السيارات في كل دولة أو السكك الحديدية التي تتمدد عليها آلاف القطارات على مستوى العالم!
لقد فرض كورونا شروطه القاسية على الإنسان وأجبره أن يتوقف توقفاً لن يطول؛ ثلاثة أشهر أو ستة أشهر أو سنة، الله يعلم متى يأذن الله بالفرج من قبضة هذا الفيروس، توقف قصير في عمر الكون، بضعة أشهر يستعيد فيها الكون عافيته، ويعود المناخ إلى عهده السابق قبل عصر الصناعة، وتعود الجغرافيا إلى تاريخها القديم قبل عهد المواصلات الحديثة من طائرات وسيارات وقاطرات.
كأن كورونا يقول:
أيها الإنسان؛ لقد أسرفت في إفسادك البيئة، لقد بلغ بك تيه القوة وجبروت المخترعات والزهو بعبقرية ما وصلت إليه من كشف وسبق وابتكار في التقنية إلى أن تشعر أنك ملكت الأرض ومَا عليها؛ من أشجار وأنهار وغابات وطبيعة بكر، بل تجاوزت الأرض إلى الفضاء، وأرسلت ما تستطيع من هذا التلويث إلى ما فوق الأرض من فضاءات نقيَّة.
لقد آن الأوان أن تتطهَّر الأرض، وأن يجرِّب الإنسان العودة إلى ذاته، وتغتسل السماء مما علقها من خطايا البشر؛ ثم يعلن كورونا -بعد إرادة الله- انقشاع الحظر عن العالم كله.