إبراهيم أبو عواد
1
الحقائق الاجتماعية لا تتجذّر في بنية العلاقات الإنسانية، إلا إذا كانت اللغة هي الحاضنة لأحلام الفرد وطُموحاتِ الجماعة. واللغةُ لَيست آليةً ميكانيكيةً عابرةً، أو عمليةَ تجميع روتينية للحروف والكلمات، إن اللغة هي الشرعية الرمزية الدائمة للوجود الإنساني المُؤقَّت. وبعد مَوت الإنسان، تظل لُغته حَيَّةً، وشاهدةً على وُجوده وأفكاره وأسلوب حياته، لذلك ينبغي الاستثمار في اللغة، لأنَّها البصمةُ المُؤثِّرة التي لا تُزوَّر، والوجودُ الحقيقي الفَعَّال في عَالَم الأقنعة والزَّيف والرِّياء، وكُل فلسفة اجتماعية لا تُبنَى في قلب اللغة، ستسقط في الفراغ، وتُؤَسِّس للعدم.
2
التعامل مع اللغة هو تعامل مع وجود الإنسان وعناصرِ الطبيعة، لأنَّ اللغة هي العَالَم السِّحْري القادر على اختزالِ المشاعر، وتكثيفِ المضامين الاجتماعية، وتأطيرِ الزمكان (الزمان - المكان)، وصَهْرِ عناصر الطبيعة ومُكوِّنات البيئة في بَوتقة معرفية واحدة، وربطِ النُّظم العقلانية المُجرَّدة بالرُّوحانية الحالمة. وهذا يعني أن اللغة هي المنظومة الشمولية التي لا تتفكَّك، والكُل الذي لا يتجزَّأ.
3
إذا أردنا معرفةَ أهمية الشَّيء، ينبغي تصوُّر الحياة بدونه. وإذا أردنا معرفةَ أهمية اللغة، ينبغي أن نتصوَّر وجود الإنسان في هذا العَالَم بدونها. سيكون العَالَمُ كئيبًا مُتَوَحِّشًا، ويَكون قلبُ الإنسان مُوحِشًا، وكيانه فارغًا، وأحلامه ضائعة. سيُولَد الإنسانُ، ويَعيش، ويَموت، ويذهب إلى النسيان، ضِمن دائرة استهلاكية مُغلَقة تقوم على الأكل والشُّرب والنَّوم. وهذا دليل واضح على أن اللغة هي التي تَمنح المعنى للوجود والجَدوى للحياة. وإذا أدركَ الإنسانُ أن حياته لها معنى، سيُدافع عنها، ويعيشها بكل تفاصيلها، رُوحيًّا وماديًّا. أمَّا إذا أدركَ الإنسانُ أن حياته بلا معنى، فإنَّه سينسحب منها، ويتراجع إلى داخل نفْسه، ويَهرب مِن الزمانِ والمكانِ، وعندئذ سيشعر أن سِجنه في داخله، وأنَّه مُحاصر من كل الجهات. وهذا هو المَوت في الحياة، والانتحار التدريجي.
4
اللغة تَحْمي الإنسانَ مَن الانتحار المعنويِّ والماديِّ، لأنَّها تَصنع له حياةً ذات مَعنى على الصعيدَيْن الرمزي والشُّعوري، وتُوجِد في المجتمع منظومةً فكرية قادرة على تفسيرِ المشاعر، واحتضانِ الأشواق الروحية، والعنايةِ بالنزعات المادية، فَيَصِل الإنسانُ إلى التوازن الداخلي، الأمر الذي يَجعله ذا شخصية سَوِيَّة قادرة على التعامل مع عناصر الطبيعة بحُب واحترام، وهكذا تزول العداوة بين الإنسان ومُحيطه الخارجي، وتختفي دوافع الانتقام والثأر من المجتمع، التي تُسيطر على مشاعر بعض الناس، نتيجة شُعورهم بأنهم مَنبوذون ومُضْطَهَدُون ومَظلومون، وأنَّ المجتمع يتآمر ضِدَّهم، ويتحرَّك باتجاه مُناوئ لمصالحهم.
5
اللغة مشروع خلاص جماعي، يُشارك جميعُ الناس فيه بدافع المحبة والإحساس بالواجب، بدون ضغط ولا إكراه. والسبب في هذا الأمر يَرجع إلى كَوْن اللغة عَصِيَّة على التَّدجين، ولا تَخضع للاحتكار. ولا يُوجد إنسان - مهما علا شأنه - يَستطيع أن يدَّعي امتلاكَ اللغة، أو يَزعم أن اللغة مِلك شخصي له، أو سُلطة خاصَّة ورثها عن أسلافه. إنَّ اللغة هي السُّلطة العُليا التي تَفرض قواعدَها على الجميع، ولا تتلقَّى الأوامرَ مِن أحد، وهذه السيادة الفَوقية، تَجعل اللغةَ هي الأُم الحاضنة لأبنائها، الراعية لهم، حيث يَعودون إلى حِضنها، ويَحتكمون إلَيها، وهذا يُشعِرهم بالعدالة والمُساواة والأمان، حيث إن لهم مرجعيةً شرعيةً، وحِضنًا دافئًا.
6
صِفة الجماعية في اللغة هي القادرة على تفسير مصادر المعرفة، وربط المشاعر غَير المحسوسة بالوجود المحسوس، وإنهاء الصراع بين الإنسان ونفْسه، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، وبين الإنسان وعناصر الطبيعة، لأنَّ الصراع نار مُتأجِّجة في صدر الإنسان، انتقلت إلى الواقع، وانتشرت بشكل كارثي، وأحرقت الأخضرَ واليابسَ، لأنها لم تجد مَن يُطفِئها في مَهْدها. وَلَوْ فرَّغ الإنسانُ أحزانَه في اللغة، وأطفأ نارَ حِقده بالكلام المنطقي العقلاني الهادئ، واعتبرَ اللغةَ هي طبيبه النفسي الذي لا يَخدعه، ولا يَخونه، ولا يُجامله، لاختفى الصراعُ، وزالَ الصِّدام. فاللغةُ قائمة على القواعد المنطقية، والحُجَج العقلانية، والأدلة المعرفية، والبراهين الفكرية، أمَّا الإنسان فهو كُتلة مِن المشاعر المُتغيِّرة، والأحاسيس المُتقلِّبة، وهو كائن خاضع لضغط العناصر الحياتية، وهذا يُفَسِّر مِزاجية الإنسان، واختلاف سُلوكه حسب الوقائع والأحداث. وهذا الفرق الجوهري بين اللغة والإنسان، يَجعل اللغةَ هي الكائن الحَي صاحب السِّيادة المُطْلَقَة على الإنسان (الكائن الحَي المِزاجي النِّسبي الذي لا يُمكن أن يَصدُر عنه قِيَم مُطْلَقَة).
* كاتب من الأردن