د.معراج أحمد معراج الندوي
دخلت العديد من التغيرات الحديثة في حياة المجتمعات والشعوب، ومن أبرزها التطور (التكنالوجي) الذي عزز من مكانة اللغة الإنجليزية في عالم اليوم. ولا يخفي دور (التكنالوجي) الذي يسهم به وسائل التواصل الحديثة في إضعاف اللغة العربية، فأضحت اللغة العربية تبتعد يوماً بعد آخر عن مجريات الحياة.
هذا العصر (التكنالوجي) الذي أدى بدوره أن يلجأ الجيل الجديد من أبناء الأمة العربية إلى استخدام لغة مهجنة في حديثه وكتاباته وخاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
واللغة العربية بالنسبة إلى القومية العربية بمثابة الهواء الذي يتنفسه العرب والماء الضروري لحياتهم، وأن أي تأثير على اللغة العربية هو تأثير على الثقافة العربية مباشرة أو غير مباشرة.
اللغة العربية هي من أعرق لغات العالم تراثاً، إذا يمتد تراثها إلى أكثر من ألف وخمسمائة عام، فهي بهذا من أطول اللغات الحية شهدها التاريخ، وإن بقاءها من بين اللغات التي سبقتها أو رافقتها إلا دليل على عراقتها، وإذا كانت لغات أخرى من اللغات السامية التي تنتمي إليها اللغة العربية كالأمهرية والأكادية والأرامية والعبرية سبقت اللغة العربية في معرفة الكتابة، فإن معظمها لم يكتب لها البقاء وذهبت مع أدراج الرياح، في حين أن اللغة العربية استمرت لغة متطورة، لغة حية، لغة عالمية ولغة معاصرة ذات أدب وثقافة عصرية.
لقد استمر عطاء اللغة العربية عبر العصور والقرون وصولاً إلى العصر الحاضر، ولئن انكمشت هذه اللغة في بعض الفترات وتراجعت، فإن شأنها في ذلك شأن باقي اللغات الأخرى التي تؤثر فيها قوانين تطور الحضارات وتراجعها في ظروف مختلفة، ورغم ذلك لم يتأثر كيان اللغة العربية الأساسي، فبمجرد اتصالها بالحضارات الحديثة في القرن التاسع عشر استعادت حيويتها في جوانب مختلفة، ازدهرت بعض الفنون الأدبية بشكل لم يعرف من قبل، وظهر أدباء أعادوا إليها الروح والحياة كما أعادوا أمجادها القديمة التي عاشتها في عصرها الذهبي.
تعتبر اللغة عن هوية الإنسان الذي فضله الله تعالى بها عن سائر المخلوقات، لذا يطلق عليها اللغة الأم، وهي تظل أقرب اللغات إلى الإنسان وأسهلها في التعبير عن خلجات النفس الدقيقة مهما زاحمتها لغات أخرى، ومن هنا أصبحت اللغة الأم جزءًا لا يتجزأ من شخصية الإنسان وتكوينه وانتمائه وهويته.
واللغة العربية التي تفاخر بها أبناؤها وغير أبنائها سابقاً تتغير صورتها اليوم لدى أبناء الأمة العربية الذين بدءوا الابتعاد عنهاً شيئاً فشيئاً رغم الكثير من محاولات تيسيرها. إن أبناء هذا العصر لم يعودوا يعيشون اللغة التي تنتمي إليها ثقافتهم وأرضهم، وإنما تنتمي هويتهم اللغوية إلى اللغة المهيمنة في التواصل الاجتماعي والدولي.
إن عدم مسايرة اللغة الأم للتطور يجعل أصحابها يشعرون بالنقص والدونية والتبعية، وقد ينسلخون من هويتهم تماماً، ومن المعروف أن اللغة تموت تدريجياً لفقدانها المتحدثين بها الذين اختاروا أن ينسوا هويتهم اللغوية في مكان آخر بلغة أخرى.
إن الهوية الأساسية هي الهوية اللغوية، فمن خلال هذا الكائن ثم المجموعة تم بناء هويتهم، وهكذا يمكن بناء الهوية اللغوية فقط من خلال الوعي والانتماء إلى مجموعة لغوية. فاللغة تميز أمة عن أمة وتمثل بذلك مكوناً أساسياً من مكونات هوية الأمة، والعناصر المهمة التي تتألف منها هوية الأمة وتتميز بها الأمم هي عقيدة الأمة وتاريخها ولغتها، لأن اللغة هي الحافظة لسائر عناصر الهوية من عقائد وتجارب، فلولا اللغة لضاعت الهوية.
إذا كانت اللغة قد حافظت على إبداع وإنتاج الأمة العربية والإسلامية عبر العصور والقرون، فإنها قادرة على العودة بها إلى مكانتها متى ما أعيد لها دورها وعززت مكانتها، فإن قوة الأمم وحضارتها لا تقاس اليوم بمدى قوتها المالية والبشرية والعسكرية فحسب، بل بمدى امتلاكها من قوة فكرية وثقافية وعلمية ومدى مساهماتها بتسخير ذلك لصالح الإنسانية.
إن اللغة العربية التي حفظت الثقافة العربية عبر العصور المتعاقبة منذ عصور ما قبل الإسلام وتحافظ حتى تقوم الساعة، ولقد ساعدها القرآن الكريم الذي أنزله الله تعالى بلسان عربي مبين، ثم حفظت اللغة العربية نتاج الفكر الإنساني العربي من علوم مختلفة والإبداع الأدبي من الشعر والنثر، ولا تزال تحفظ الهوية العربية، بل تضم إلى حلبتها كل من هم غير العرب وتعرب لسانهم بإتقانها والحديث والتفكير بها، فصارت عروبة اللسان هي تجمعهم في هذه الهوية العربية.
لقد آن الأوان أن يقوموا أبناء الأمة العربية بتعزيز اللغة العربية وتقوية مكانتها لغة للعلم والتعليم والإعلام ولغة التواصل الاجتماعي والثقافي حتى يتمكن جميع أفراد المجتمع العربي من إجادتها وممارستها والتواصل عبرها لتقدم فكراً عميقاً وثقافة رائدة وهوية بارزة.
يجب على أبناء الأمة العربية أن يقوموا بعمل حاسم على طرح مشروع ثقافي نهضوي مستنداً إلى نتاج الأمة العربية والإسلامية على ما تزخر به الذخيرة العربية لتحقيق حضارة عربية تستلهم الماضي والحاضر والمستقبل. ولن يتم ذلك إلا بتحصين الهوية العربية وعناصرها وجعل الثقافة العربية ثقافة منتجة ولغتها لغة عالمية.
وفي هذا السياق دعت الحاجة إلى تعزيز اللغة العربية بالهوية، ولا يمكن للهوية العربية أن تقوم إلا بلغتها، فإضعاف اللغة هو السبيل إلى إضعاف الهوية وإضعاف الأمة.
تحمل اللغة العربية في جنبها تاريخاً وحضارة، فلا بد أن يكون للأمة العربية المجد الذي يعيدها الوهج الحضاري، وأن تكون عنصراً مساهماً في الحضارة الحديثة.
واللغة العربية هي روح الأمة وعنوان هويتها ووعاء ثقافتها ورمز وجودها، يعتمد أهلها الحفاظ عليها والنهوض بها لتكون لغة نابغة بلا حياة، تزدهر لازدهار الحضارة بحيث تساير العصر فتكون لغة الحاضر الذي يؤسس المستقبل.