أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: يتعلَّق برحلاتي في بلاد (الجبلين) تحديد آفاق (سحابة امرئ القيس) التي تخيلها، وحدَّد مواضع غيثها مطراً من السماء، وسيلاً نزل إلى الأرض؛ وقد بلغت الظنون مبلغها في التحديد بسبب الاختلاف في رواية الأدباء أبيات (امرئ القيس).. وأرى أن تحصيل علم يقيني، إذ هو يحدد آفاق السحابة: ممكن بشرط توحيد الرواية على مواضع معينة لا اختلاف فيها؛ وهذا التوحيد لا يكون بافتعال المتلقي: (السامع، أو القارئ)؛ وإنما هو عن ضرورة استنباط تؤكد أن المستنبط من الرواية المختلفة: هو الرواية التاريخية الصحيحة؛ ولقد قال امرؤ القيس عن البرق:
قعدت له وصحبتي بين حامر
وبين إكام بعد ما متأمّل
وفي رواية: بين ضارج وبين أكام..
وفي رواية: بين ضارج والعذيب
علا قطنا بالشيم أيمن صوبه
وأيسره على الستار فيذبل
وفي رواية: فثيتل.. وفي رواية: فنبتل
فأضحى يسح الماء حول كتيفة
يكبُّ على الأذقان دوح الكنهبل
كأنَّ أباناً في عرانين وبله
كبيرُ أناس في بجاد مزمَّل
وفي رواية: كان ثبيرا في عرانين
وتيماء لم يترك بها جذع نخلة
ولا أُطُماً إلا مشيدا بجندل
كأنَّ ذُرى رأس المجيمر غُدوةً
من السيل والأغثاء فلْكةُ مغزل
وفي رواية: طمية المجيمر
كأن مكاكي الجوء غدية
صبحن سلافاً من رحيق مفلفل
قال أبو عبدالرحمن: الصبوح شرب اللبن في الصباح، والغبوق شربه مساء
وألقى بصحراء الغبيط بَعَاعَه
نزول اليماني ذي العياب المحمل
وألقى ببيسان مع الليل بركه
فأنزل منه العصم من كل منزل
وفي رواية: ومر على القنَّان من نفيانه
قال أبو عبدالرحمن: مضى فيما مرَّ من سياق اختلافُ أسماء المواضع حسب تعدّد الروايات والمواضع التي سماها (امرؤ القيس)، وأرادها محدَّدة معينة غير محتملة التعدّد؛ والمواضع التي سماها (امرؤ القيس) وأرادها تُؤلِّف بمجموعها الدلالة على سحابة تعقل معاينتها ورؤيتها مباشرة بين المواضع المذكورة.. وأي موضع يستحيل شيم السحاب من جهته؛ لبعده عن الموضع الآخر المذكور في القصيدة: فهو غير معقول؛ فأحد الموضعين غير صحيح؛ لأنه غير صحيح: أن (امرئ القيس) قاله؛ إذن لا يسمح النظر العقلي ببعد بين المواضع لا يتحقق معه إحاطة السحاب بالمواضع، أو وصول سيل السحاب في الأرض إلى بعض تلك المواضع، وتكون الركيزة في معرفة القرب والبعد المواضع التي لم تختلف الرواية حولها؛ وذلك هو قطن.. و(امرؤ القيس) عندما شام البرق رأى أيمن السحاب على قطن؛ فسقط بذلك رواية إكام الشام، وعذيب العراق بطريق الحاج العراقي؛ لأن من كان بهاتين الجهتين لا يستطيع شيم سحاب صوب قطن؛ ولو قدِّر ذلك: لكان أيمن السحاب لا يعلو جبل قطن ما دام أيسره على الستار؛ بل يكون حينئذ أيسره على قطن؛ لأن الشائم آت من أقصى الشمال.. والستار ستار غسل لا ريب؛ لأنه لا يتصور غير ستار غسل في وصف سحابة أيمنها على قطن، وأيسرها على غسل؛ ولأن تلك الأصقاع ديار (بني أسد)، و(امرؤ القيس) ذو علاقة بالديار الأسدية؛ ولأن (امرئ القيس) ذكره في موضع آخر؛ فعرفه بالإضافة إلى غسل؛ فيظل الستار على معهودنا من شعر (امرئ القيس)؛ وذلك قوله:
تربع بالستار ستار غسل
إلى قدر فجاد لها الولي
قال أبو عبدالرحمن: هذا البيت فيه إقواء؛ لأن هذا البيت مضموم، وبقية القصيدة على الفتح.. وتعدُّد اسم الستار عَلَماً على معالم مكانية؛ لأنه كان في الأصل وصفاً لكل جبال مستطيلة أفقياً غير عالية، وليس بها مسيل، ورواية العذيب غير محتملة؛ لأن عذيب العراق محال إرادته بما سبق بيانه؛ ولأن المورد الواقع في نقرة بنهاية خبوب بريدة الغربية القريب من ضارج: يُسمى حديثا (المِعْذَب)، ويُسمى قديماً (العذيبة)؛ لأن (ابن حبيب) وصف جبلاً هناك (وهو جبل العناب؛ أي الإصبعة حالياً) بأنه جبل أسود في جانب رمل العذيبة.
قال أبو عبد الرحمن: العذيب غير العذيبة والمعذب؛ والرواية الخاطئة أرادت عذيب العراق؛ لأنها قرنت بها الإكام أو حامر، والشهرة لحامر الوادي الذي ينحدر من جبال حامر غرب بدنة، ويشرِّق إلى قرب الفرات؛ وتُحتمل تصحيحاً لا ترجيحاً مواضع قريبة من السحاب التي يسميها (امرؤ القيس)؛ فهناك حامر جبل وصف بأنه في طريق فيه إلى تيماء شمال جبل رمان بينه وبين جبل الحضن، وهناك حامر جبل شرق السليمي بعشرة أكيال في عدنة قديماً، وبه ثمد، وهناك الأحامرة أسفل وادي الشعبة قرب جبل ترف لبني نصر؛ ثم العمرية لبني عبس بن قعين.. وللحديث بقية إن شاء الله تعالى في الجمعة القادمة، والله المستعان.