د. علي بن فايز الجحني
يقال: إن الوعي جزء من الثقافة، وهو عملية شديدة التشابك والتأثير تشمل الاعتقاد والقول والإدراك والفهم والممارسة، وهو أيضًا أشكال متعددة، ومحطات متنوعة في سلسلة المراحل العمرية والتطور الاجتماعي التي يمر بها الإنسان، فهناك الوعي السياسي، والوعي الاقتصادي، والديني، والأمني إلى غير ذلك ومحتواه في مجمله إدراك المرء لذاته وأحواله وأفعاله وما يدور حوله من ظواهر وأحداث وبما يكفل له حياة آمنة، وفي نفس الوقت بما يجعله يستشرف بوعيه اليقظ والنشط بوصلة الأخطار المحيطة، وكيفية الوقاية منها.
إن للمؤسسات التعليمية والإعلامية والدينية ووسائل الضبط الاجتماعي دورًا كبيرًا في إعلاء الوعي المنشود في إطار السلوك الجماعي أو الفردي، وأنه لما كان الوعي الذي يستقيه المسلم من مصادر عديدة منها: الإسلام بوسطيته واعتداله وتسامحه يمثل أعلى درجات الوعي: وعي بالذات، وعي بالبيئة المحيطة والظروف الحالية، وعي بالعالم والسنن الكونية، وعي بالمآلات، وبمقاصد الاستخلاف في الأرض كلٌّ بحسب طبائعه وخصائصه ومستويات ثقافته ومهاراته وتربيته، فإن وعي المثقف العربي سيظل دائما على المحك من حيث كونه يتعرض لاختبار صعب في مصداقية مواقفه خاصة وأن الأحداث متسارعة، ولها تداعياتها عليه، وفي خضم هذه الأحداث المتلاطمة يكون سقف التوقعات كبيرا، وهذا يجعل بعضهم يكون عرضة للاتهام بأنه غير مبال بهموم المجتمعات ومهدداتها، في حين أنه كان عليهم أن يقدموا أعمالا توعوية فكرية ترتقي بوعي الإنسان؛ كل في مجاله كالروائي مثلا والشاعر والفنان وكاتب المقال التنويري.
والحق أن الوعي هو ارتقاء بالإنسان من جميع النواحي الدينية والثقافية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والأمنية وغيرها، بما يخدم التفكير، والاعتدال، في الفهم للأمور الحياتية، والتصور الإيجابي للكون والحياة والإنسان، ويعزز وحدة الاعتقاد والفكر، ووحدة السلوك، ووحدة العاطفة، والشعور بالانتماء إلى ثقافة الأمة وقيمها, بعيدًا عن المسارات الزائفة والشعارات المضللة التي تؤول إلى التخلف والأزمات بسبب الاعتماد على مصادر التضليل من وسائل الإعلام المعادية، وشبكات التواصل الاجتماعي، التي تخفي الحقائق مشكِّلةً رأيًا عامًّا زائفًا نحو قضايا الأمة، بسبب الذين امتهنوا تزييف الوقائع وخداع الشعوب.
إن النخب الثقافية في مجتمعنا مطالبة بإبراز صور التلاحم المجتمعي بين القيادة والمواطنين، ونشر ثقافة الحوار والتسامح وثقافة الحب والسلام والإخاء، والتوعية القانونية بالعقوبات التي تجرم كل من يسيء للأمن والاستقرار، وترسيخ قيم الوطنية والوعي الأمني والمحافظة على مكتسبات الوطن وإنجازاته، وحمايته من أي نشاط هدام يستهدف المساس بثوابته، والتصدي لضروب الإفساد والعدوان، قال تعالى:{وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. وقال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}(النساء: 93). وقال صلى الله عليه وسلم: «لم يزل المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دمًا حرامًا» (رواه البخاري). وقال عليه الصلاة والسلام: «لزوال الدنيا وما عليها أهون عند الله من قتل رجل مسلم» (رواه أبو داود والترمذي)، وقال عليه الصلاة والسلام: «من قتل معاهدًا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عامًا». وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: «من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهلية» (رواه مسلم).
وتأسيسًا على ما سبق، فإن ترقية الوعي المجتمعي وإعلاءه لخدمة الأمن الفكري يتم من خلال عدة مراحل:
المرحلة الاولى: استمرار تكثيف برامج التوعية الوقائية من الانحرافات الفكرية عبر مؤسسات التنشئة الاجتماعية، ووسائل الضبط الاجتماعي.
المرحلة الثانية: تعزيز ثقافة الحوار والتسامح والرد على الشبهات وتفنيدها، ومقارعتها بالحجج والحقائق المدعومة بالأدلة.
المرحلة الثالثة: التحليل والتقييم وتقدير مدى الخطورة على الأمن المجتمعي.
المرحلة الرابعة: الإسهام في قضايا العلاج وإعادة التأهيل (وقاية، تأهيل، رعاية).
المرحلة الخامسة: الانخراط في الأعمال التطوعية تنويرًا وممارسة ميدانية.
* لاشك بوجود عجز وفتور وانكفاء في بعض ممن يحسبون على المثقفين العرب عن بناء جسور حقيقية بين الماضي والحاضر والمستقبل، ونجم عن هذا الانكفاء والاستغراق في دوائر المتطلبات الشخصية والميول السلطوية والسياسية، إغفال احتياجات الناس للخدمات الإنسانية والخيرية وشتى أصناف العون والمساعدة التي هي من أبواب أعمال البر والتطوع التي حث عليها ديننا الحنيف، ومع انعزالهم الاختياري عن هموم مجتمعاتهم الحقيقية في أبراجهم العاجية أو انصرافهم إلى قضايا ومعارك وخصومات جانبية، وتصنيفات مجتمعية، تأجيج التحاسد والتباغض فيما بينهم ومع المختلفين معهم، ومع عدم إقرارهم بحق الاختلاف وشرعية المغايرة، تراجعت الثقة في هذا الصنف من المثقفين الذين يعدون أنفسهم قوميين تقدميين أو من المدافعين عن مبادئ وقيم الأمة، وعلى الجانب الآخر.
* إن المثقف المتبصر يظل صوت المجتمع وضميره اليقظ في أمسه ويومه وغده، أو يفترض ذلك وهو بمثابة صمام الأمان لأمته، وأي مجتمع لا يملك ثقافة ومثقفين ملتزمين يكون مجتمعًا ناقصًا، وفي نفس الوقت فإن اهتمام المثقف بالعمل التطوعي مطلبٌ حضاريٌ بالغ الأهمية؛ وقد تجسدت أهميته في الإسلام، وكانت رؤية 2030م علامة فارقة، ونقلة نوعية من حيث كونها نظرة الحاضر للمستقبل من خلال قيادة أكبر وأعمق للتحولات النهضوية لوضع المملكة في المكانة اللائقة بها، وللعمل التطوعي نصيب أوفر في مكامن القوة التي تطمح الرؤية إلى تحقيقها، بحيث ترتفع نسبة أعداد المتطوعين في المملكة من (11) ألف متطوع حاليًا إلى مليون متطوع، لكون العمل التطوعي إحدى الركائز الأساسية في التنمية المستدامة، ودليل حيوية المجتمع ورقيه، لا سيما مع تعقد وتطور أوجه الحياة وسرعة إيقاعاتها وتوسع احتياجاتها، فإن الإسلام قد سبق كل النظريات والمفاهيم والفلسفات في بيان أهمية العمل التطوعي، والحث عليه، من خلال التبرع بالجهد أو المال أو الوقت أو بها جميعا للقيام بعمل أو أنشطة لخدمة المجتمع، دون الحصول على مردود من جراء التطوع، وهو عملية تفاعلية ومشاركة فردية أو جماعية، أو كليهما معًا، تقوم على خدمة الإنسان للإنسان بحسن نية ورغبة فيما عند الله من الثواب الجزيل والأجر العظيم.
* ونتيجة لتعاظم الوعي الثقافي المجتمعي وإعلاء قيمته في الدول التي تهتم بالعمل التطوعي تطورت برامجه وممارساته تطورًا مذهلًا، وأصبح عملًا مؤسسيًا منظمًا، ورافدًا حيويًا من روافد التنمية، وقد أشارت بعض المصادر إلى أنه بلغ ما تطوع به (62.800.000) مليون مواطن متطوع أمريكي وصل إلى ما قيمته (173) مليار دولار أمريكي عملوا على ضخه في الاقتصاد الأمريكي في عام واحد، وكان مجموع ساعات العمل التطوعي فيها (8) مليارات ساعة، وهذا يؤكد أن العمل التطوعي لم يعد ترفًا أو عملًا بديهيا تدفعه مقتضيات الظروف الحرجة، والأزمات والكوارث.
ومن هذا المنطلق انبثقت أهمية هذا السؤال:
* هل المثقف مطالب بالانخراط في الأعمال التطوعية تنويرًا وممارسة ميدانية؟
- لا شك أن من لا يمارس العمل التطوعي عملًا واقعيًا ينقصه الشيء الكثير، وذلك لأن بين الثقافة والتطوع ترابطًا عضويًا لا انفصام بينهما.. كيف؟ المثقف هو من قادة الرأي والتنوير في المجتمعات، ويحمل مشعل رسالة سامية نحو مجتمعه، تتمثل في: التوعية والتبصير، والمشاركة في السراء والضراء، من أجل الارتقاء بأفراد المجتمع ليصلوا إلى درجة عالية من الرقي والإنسانية والمشاركة في كل ما يحقق لهم الخير والأمن والحياة الكريمة، وهذ يحتم على المثقف الانغماس في مجالات الخير والأعمال التطوعية من خلال التحفيز وتحريك الجماليات الإنسانية، وفي نفس الوقت تحجيم ثقافة الإحباط والتيئيس، فهو لا يبالغ في الأمور، أو يهوّل أو يهون منها. إنه بمثابة الطبيب الحاذق الذي يستخدم مشرطه في معالجة آفات المجتمع وتطلعاته بحكمة واقتدار، متصديًا للأفاعي السامة والمردة وعناصر الشر في الحياة الذين يعوقون مسيرة التطور في المجتمع من خلال توظيف فكره وقلمه في تشجيع العمل التطوعي في ظل ما تواجهه مؤسسات الدول الرسمية في جميع أنحاء العالم من تضخم كبير في حجم مسؤولياتها نحو مجتمعاتها.