د. حسن بن فهد الهويمل
دخلت عالم « تويتر» وظني أنه عالم منضبط، يتحرَّى الحق ما وسعه ذلك، وأن رواده طلاب حق، لا يكِلُّون، ولا يَمَلُّون. ولما توغلت فيه تكشف لي عواره، وتبدت لي أسراره، وأدركت أنه عالم يموج بالمتناقضات. لا تدري مع من تكون، وضد من تكون.
الجهلة، المجهولون، والفضوليون الفارغون، يملؤون فضاءه. يؤذون، ويغثون، ويستدرجون.
والمتقنعون المغرضون يترصدون للناصحين المصلحين، وكأن الجميع: (في لُجَّةٍ أمْسِكْ فُلاناً عن فُلِ):
(مَلَاعِبُ جِنَّةٍ لَوْ سَارَ فيها
سُليمان لَسَارَ بِتُرجمانِ)
يَعِنُّ لي بين الحين والآخر الفرار من الزحف. ولكن الفرار مغامرة، تحرم الإنسان المقتدر من الدعوة، والإصلاح، وخيرية الأمة.
ثم إن الفرار من الزحف لغير تحيز، أو تحرف يُعَدُّ من كبائر الذنوب، لأن جهاد الكلمة، صنو الجهاد بالسلاح.
لقد أدركت من لغط المواقع أن كلَّ إنسان عَالَمٌ بنفسه، له بصمته الفكرية، التي لا تشبه أحداً من جنسه، وأن هذه البصمة الفارقة في البنان، تماثلها بصمة فكرية في الدماغ.
فالأفكار كالأناسي يتشابهون في المآكل، والمشارب، ولكنهم تختلفون في التمثيل الغذائي. التَّلَقِّي عبر العيون، والآذان، كالتلقي عبر الأفواه، والأسنان. المائدة واحدة، والهضم، والامتصاص واحد، ولكن التمثيل مختلف جداً.
يا له من خالق: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}. وهداه إلى ما قُدِّر لها من خير، أو شر.
من الناس من استحوذ عليه شيطان الإعلام المسلط، فمزق خارطته الفكرية، وأفرغ أوعيته الذهنية، ورسم له خارطة جديدة، وملأ أوعيته بما يرى، وأفاض عليه بحشفه، وسوء كيله، فما عاد يسمع، ولا يرى.
(حرب الإعلام) ذروة سنام الحرب النفسية. والمنهزم نفسياً لا تنفعه القوة الحسية. القوتان: النفسية، والحسية حين تُخْترقان بالتخويف، والافتراء، والتزييف، وبـ(الطابور الخامس). تفقد الأمة أهلية الوجود الكريم. وتصبح صدى تُؤَوِّبُ، ولا تحكى. بحيث تكون (الآخر الصدى) وغيرها الطائر المَحْكِي.
الذين يمارسون (جلد الذات)، واقعون تحت التخدير الإعلامي. وساعة إذ يباع عليهم السلاح للاقتتال البَيْنِيَ. وتُشتَرى القدرات البلاغية، للتضليل، والتوهين، والتزييف، عبر القنوات، والمواقع.
حرب مزدوجة تمارس ضد أمتنا، صُودِرت فيها الأيدي، والألسن، والأفكار. وأصبحت الأمة بحثالاتها، ورويبضاتها كمن يُخْرِبُون بيوتهم بأيديهم، وأيد العدو المتربص.
هذه المصادرة تتجلَّى أكثر ما تتجلَّى بأقلامِ، وألْسِنَةِ المتصدرين لمواقع التواصل الاجتماعي.
كان بودي لو تفهمنا واقعنا، وأدركنا ما نحن عليه من وهن، وحزن. مع أن بإمكاننا التوقف للمراجعة، والمساءلة، ومحاسبة النفس، وتفادي الأخطاء.
الأمم - كل الأمم - مرت بحروب أهلكت الحرث، والنسل، ولم تجنِ منها إلا الإفلاس، ولكنها أخذت منها دروساً حالت دون تكرارها.
ما قتل، ودمر في (الحربين العالميتين) الأولى، والثانية أضعاف ما قتل في العالم الإسلامي، منذ البعثة النبوية، وحتى الآن. ولكن أولئك وعوا الدرس. لقد تفادوا الأخطاء، واجتمعت كلمتهم، رغم تفاوتهم لغةً، وديناً، وأعراقاً، وثقافات، ومستويات اقتصادية.
المؤكد أنهم تولوا شأنهم بأنفسهم، ولم يتسلَّط عليهم مَن هو أقوى منهم.
الأمة العربية، والإسلامية دُبِّرت لها المكائد، وأُتيت من كل جانب، وأصبحت قابلة للهزيمة، والاستعمار. ورجالاتها النوابغ خذلهم الأقربون.
وإذا جاءت العلة من البطن خارت القوى، ووهن العظم.
(الغرب) جَرَّبَ كل أنواعِ المواجهات، ولم يَجِد أفضل من سياسة (فرق تسد)، شرذمة لا نظير لها في التاريخ أدت إلى الضعف، والوهن، والحزن.
والأخطر من ذلك كله برمجة (الذهن العربي)، لموضعة ذاته، وجلدها، وممارسة الإحباط، والتيئيس، وتقديس الذات الغربية، وتحييدها.
إنه زمن المتنبي: (وجئناه على الهرم) لقد عشنا الصدمة، وطاولتنا الدهشة، وأعشى عيوننا الانبهار. وقعدت بنا القابلية لكل فيوض الإعلام.