أحمد الشريف بن محمد السنوسي مجاهد وزعيم وطني ليبي من الأسرة السنوسية، ولد عام 1873م في واحة الجغبوب في ليبيا، قاد الجهاد في شرق البلاد ضد الغزو الإيطالي في بدايات القرن العشرين، وسطر بطولات في معارك عدة ضد الفرنسيين والإنجليز والإيطاليين في كل من تشاد والسودان ومصر وليبيا، وساهم في نشر الدعوة الإسلامية وتعاليم الدين الحنيف في القارة الإفريقية، وهو صاحب كتاب (السراج الوهاج في رحلة السيد المهدي من الجغبوب إلى التاج) وقد عُني فيه بتدوين الرحلات الدعوية التي رافق فيها عمه محمد المهدي السنوسي.
وفي عام 1902م أسس جبهة أفريقيا الإسلامية لمقاومة الاستعمار الأوروبي- الفرنسي، وما أن وطئت القوات الإيطالية شواطئ ليبيا عام 1911م حتى تهيأ السيد أحمد الشريف السنوسي لقتالهم بمساعدة شيوخ بارزين أمثال الشيخ حمد بن سيف النصر، والشيخ عمر المختار، قاومت ليبيا إيطاليا لفترة قصيرة حتى تم التنازل بمقتضى معاهدة أوشي (معاهدة لوزان الأولى)، غير أن أحمد الشريف بن محمد السنوسي رفض اتفاقية لوزان، وبعد التوقيع عليها بادر بسد الفراغ المترتب على انسحاب القوات التركية من البلاد، وكان شعار تلك الدولة (الجنة تحت ظلال السيوف) مع الانسحاب الكامل لجميع القوات التركية من البلاد، ثم قرر فتح جبهة جديدة من داخل الحدود المصرية عام 1915م لقتال إيطاليا، وتمكن من هزيمتهم في معركة السلوم، ثم واصل القتال نحو المحور الجنوبي، محتلا عددا من الواحات، وبذلك كون جبهة عريضة لقتال الإنجليز، وكانت معركة السلوم عام 1917م آخر المعارك التي خاضها والتي انتصر فيها البريطانيون، وقد شكلت هذه المعركة نهاية المطاف في صراعه مع الإنجليز في ليبيا، حيث بادروا بإرغامه على مغادرة البلاد عام 1918م، وهنا كما يقول العلامة خير الدين الزركلي في الأعلام (1/ 135) ما نصه: (قصد دمشق، وكان الفرنسيون فيها، فلم يأذنوا له بالإقامة، فرحل إلى الحجاز، فأكرمه الملك عبدالعزيز آل سعود، فأقام في ضيافته بالمدينة صيفاً، وبمكة شتاء)، مستفيدا من تلك العلاقة التي كانت تربطه بالملك عبدالعزيز عليه وابل الرحمات، وهناك بدا محركا وقائدا للمقاومة والجهاد في الداخل، والتي كان يقودها في المنطقة الشرقية للبلاد الليبية عمر المختار وآخرون.
وظل السنوسي طوال إقامته في مكة المكرمة متفرغا لدعم المجاهدين في الداخل، وكان يتخذ من مواسم الحج والعمرة وسيلة للاتصال بالشعب الليبي، ويستقبل رسل الجهاد الليبي الوافدين إلى مكة المكرمة مزودا إياهم بالنصح والإرشاد والإمدادات والمعونات، وقد جعل من موسم الحج منبرا إعلاميا يحث المسلمين على دعم القضية الليبية ويجمع لها التبرعات المادية، فهو مثل أعلى في هذا المقام، وقد ضحى بنفسه تضحية كاملة مجردة عن كل غرض دنيوي، وعن عمر يناهز ستين عاما، اختتم أحمد الشريف السنوسي صحيفة أعماله في 10 مارس/ آذار 1933م بالمدينة المنورة، ودفن جثمانه في مقبرة البقيع.
وصفه شكيب أرسلان في (حاضر العالم الإسلامي) بقوله:
كانت محادثة الركبان تخبرنا
عن جعفر بن فلاح أطيب الخبر
حتى التقينا فلا والله ما سمعت
أذني بأحسن مما قد رأى بصري
رأيت في الرجل حبرا جليلا، وسيدا غطريفا، وأستاذا كبيرا، من أنبل من وقع نظري عليهم مدة حياتي، جلالة قدر، وسراوة حال، ورجاحة عقل، وسجاحة خلق، وكرم مهزة، وسرعة فهم، وسداد رأي، وقوة حافظة مع الوقار الذي لا تغض من جانبه الوداعة، والورع الشديد في غير رياء ولا سمعة. سمعت أنه لا يرقد في الليل أكثر من ثلاث ساعات، ويبقى سائر ليله في العبادة والتلاوة والتهجد، ورأيته مرارا تنفج بين يديه السفر الفاخرة اللائقة بالملوك فيأكل الضيوف والحاشية ويجزي هو بطعام واحد لا يصيب منه قليلا، وهكذا هي عادته، وله مجلس كل يوم بين صلاتي الظهر والعصر لتناول الشاي الأخضر الذي يؤثره المغاربة، فيأمر بحضور من هناك من الأضياف ورجال المعية، ويتناول كل منهم ثلاثة أقداح شاي ممزوجة بالعنبر، فأما هو فيتحامى شرب الشاي لعدم ملاءمته لصحته، وقد يتناول قدحا من النعناع. ومن عادته أنه يوقد في مجالسه غالبا الطيب، وينبسط السيد إلى الحديث، وأكثر أحاديثه في قصص رجال الله وأحوالهم ورقائقهم وسير سلفه السيد محمد بن علي بن السنوسي، والسيد المهدي وغيرهما من الأولياء والصالحين، وإذا تكلم في العلوم قال قولا سديدا، سواء في علم الظاهر والباطن.
وقد لحظت منه صبرا قل أن يوجد في غيره من الرجال، وعزما شديدا تلوح سيماؤه على وجهه، مبينا هو في تقواه من الأبدال إذا هو في شجاعته من الأبطال، وقد بلغني أنه كان في حرب طرابلس يشهد كثيرا من الوقائع بنفسه، ويمتطي جواده بضع عشر ساعة على التوالي بدون کلال، وكثيرا ما كان يغامر بنفسه ولا يقتدي بالأمراء وقواد الجيوش الذين يتأخرون عن ميدان الحرب مسافة كافية، أن لا تصل إليهم يد العدو فيما لو وقعت هزيمة، وفي أحدار المرار أوشك أن يقع في أيدي الطليان، وشاع أنهم أخذوه أسيرا، وقد سألته عن تلك الواقعة فحكى لي خبرها بتفاصيله، والسيد أحمد الشريف سريع الخاطر، سيال القلم، لا يمل الكتابة أصلا، وله عدة كتب منها كتاب كبير أطلعني عليه في تاريخ السادة السنوسية، وأخبار الأعيان من مريديهم والمتصلين بهم، ينوي طبعه ونشره فيكون أحسن كتاب لمعرفة أخبار السنوسيين.
ويسرد العلامة خير الدين الزركلي في أعلامه، كتبه في نهاية ترجمته (1/ 135) قائلا: وكان على علم غزير، صنف في أوقات فراغه عدة كتب منها (الأنوار القدسية)ط ترجم فيه بعض السنوسيين، و(الفيوضات الربانية)ط في الطريقة السنوسية، وكتاب في (تراجم مشايخه ومشاهير من اجتمع بهم من أهل المغرب) و(الدر الفريد الوهاج بالرحلة المنيرة من جغبوب إلى التاج- خ).
وألف الأمير شكيب أرسلان كتابا سماه: (خلاصة رحلة المرحوم السيد أحمد الشريف السنوسي)، تناول فيه الحديث عن السنوسي، حيث تأثر به المؤلف متابعا لرحلته النضالية، وجعل الكتاب في مخطوطة، سجل فيها الحقبة الأخيرة من حياة السيد أحمد الشريف السنوسي، ويتسم الكتاب بوفرة معلوماته وبساطة لغته، ويسر أسلوبه في آن واحد.
وأخيرا: ظل هذا الزعيم الليبي الكبير طوال حياته عالما ومحاربا وسياسيا وخطيبا، فهو حريص كل الحرص على نفث الروح في المجتمع العربي والإسلامي من جديد.
وعلّك أيها القارئ الطلعة، لاحظت معي عبقرية مؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبدالعزيز آل سعود -طيب الله أثره وثرياه- في انتقاء جلسائه، ورجال ديوانه، هم رجال، كانوا حوله، سطروا بكفاحهم أعظم الكفاح، ورسموا بدمائهم أجمل النضال.
** **
- حنان بنت عبدالعزيز آل سيف -بنت الأعشى-
- عنوان التواصل: ص.ب: 54753 - 11524
hanan.alsaif@hotmail.com