م. بدر بن ناصر الحمدان
هذا العنوان جزء منه مقتبس من الكتاب الشهير (المدينة الوحيدة: مغامرات في فن البقاء وحيدًا) للروائية البريطانية «أوليفيا لاينغ»، والتي تروي تجربتها مع الوحدة في مدينة نيويورك، بعد أن تركت موطنها لندن بحثاً عن الحب الذي فقدته لاحقاً، وقرَّرت حينها البقاء وعدم العودة، بعد أن تعايشت مع العزلة الاختيارية وسط أماكن مأهولة تعج بالناس، وحين اكتشفت قدرتها على المغامرة وإتقانها لفنِّ البقاءِ وحيدًا، لتبرهن على أن العزلة قد تكون عالماً جميلاً بإمكانه إطلاق كل ما بداخلها من أشياء لم تكن لتظهر لولا أنها قرَّرت ذات يوم أن تكون «بمفردها».
أبو لطيفه، شاب في بداية الأربعينات، صديق قديم، افترقنا منذ سنوات لأنه هو الآخر قرَّر ذات يوم «البقاء وحيدًا»، قضى جلّ حياته -ولا يزال-، في عزلة اختيارية، يصفها دائماً بأنها أفضل قرار اتخذه منذ مغادرته مقاعد الدراسة في المرحلة المتوسطة نهاية صيف عام 1988م، والبقاء للعيش في قريته الصغيرة خارج الرياض، بعد أن حصل على وظيفة إدارية بالمرتبة الرابعة، واستطاع حينها ترميم منزلهم الطيني في البلدة القديمة ليصبح المكان الأكثر احتضاناً لعزلته، التي امتدت لحياته الاجتماعية وبقائه عازباً حتى هذا اليوم.
يحتفظ أبو لطيفة -الكنية التي رافقته منذ الصغر- بأسلوب حياة يومي فريد، لم يتغيَّر بكل تفاصيله منذ أكثر من 33 عاماً، حيث يبدأ يومه بصلاة الفجر وتناول القهوة مع والدته الكبيرة في السن ثم يذهب إلى مكان العزلة لتحضير خبزه وإفطاره الشعبي بنفسه وعلى طريقته التقليدية الخاصة على نار سعف النخيل، مع إبريق شاي الجمر الأسود، وجرعة باردة من ماء الزير، ثم يغادر إلى مكان وظيفته الذي يضطر فيه إلى مواجهة ثلة من البشر بحكم فرضية أكل العيش وأداء الواجب لا أكثر، يعمل بصمت ويغادر بصمت.
بعد الساعة الثانية ظهراً، يعود «أبو لطيفة» إلى تناول الغداء مع والدته - البار بها - ثم يدخل في قيلولته المعتادة حتى الثالثة عصراً، ليتوجه بعدها إلى أطراف القرية، ويبدأ طقوسه اليومية وحيداً مع «شاي الحطب» في عالية أحد الأودية، تحت شجرة سدر كبيرة، تعرفه ويعرفها جيداً، وتربطهما علاقة روحية، فهو يستظل بظلها منذ سنوات طويلة ويعرف تفاصيل أغصانها وأوراقها وحتى الطيور التي تعيش بداخلها، يقضي ساعات العصرية تلك في التأمل وقراءة الكتب لرواد الأدب العربي، فهو أديب مغرم، وشاعر كبير، لكنه لا يخبر أحد بذلك.
عند الغروب، يبدأ في ترتيب أدواته، ويضعها في صندوق سيارته التويوتا والتي تتزامن سنة صنعها مع سنة قرار عزلته، يحتفظ بها حتى اليوم فهي صديقة الرحلة الطويلة وتكاد تكون هي الوحيدة من هذا الطراز ما زالت في الخدمة حتى الآن، كما هو هاتفه الخلوي القديم، هو لا يؤمن بقشور الحضارة ولا بمظاهرها، ولم تكن مصدراً لاهتمامه في يوم من الأيام، لأنه يمتلك بداخلة ثقة في النفس، وإيماناً عميقاً، وثقافة نادرة، وفلسفة حياة تستند على قيم راقية وأسلوب عيش لا يتكرر كثيراً، لذلك لا يمكن الوصول إلى أبو لطيفه أو الاتصال به بسهولة مهما بُذل من جهد، فهو لا يرى أهمية كبيرة لوجود البشر في حياته.
مع حلول الظلام، يرتشف من ماء القربة المعلَّقة على الجزء الإمامي من سيارته، ويضع ما تبقى منها سقيا للطيور التي تنتظره كل يوم تحت الشجرة، ويختتم جلسته بصلاة المغرب في أجواء روحانية خالية، يسأل الله فيها العفو والعافية، ذلك الدعاء الذي لا يفارق لسانه أبداً، ثم يعود أبو لطيفة إلى القرية، متجهاً إلى متجرها الصغير ليشتري مؤونته اليومية التي لم تتغير قائمتها هي الأخرى منذ زمن، يتجه إلى البيت ويتفقد أحوال والدته ويتناول معها قهوة «ما بين العشاوين»، يغادر بعدها مرة ثانية إلى العزلة الليلية، لإحياء الليل فوق سطح منزلهم القديم الذي يشرف على أطلال ما تبقى من منازل قريتهم القديمة، يقوم برش الماء على جدران الطين ليستعيد رائحة الأمس، ويضبط مذياعه على محطة «مونت كارلو»، ثم يستلقي تحت ضوء القمر وهو ينظر إلى السماء، حيث الكون والنجوم التي لم يعد يراها سواه، يدخل معها حالة من صفاء الذهن المفعم بروحانيات خاصة لا يمتلكها إلا هو، تصل به لمدى بعيد، بعيد جداً، حيث لا أحد هناك، سمح لي أن أزوره ذات يوم -بصفة استثنائية-، وقال لي في لحظة تأمل: هل تعتقد أن «جيمي كارتر» ينعم بمثل هذه الأجواء؟
قبل منتصف الليل يعود أبو لطيفه إلى المنزل، ليخلد إلى النوم، بعد قبلة على رأس أمه، ثم يدلف إلى غرفته الخارجية الملحقة بالمنزل، ويغلق الباب في خلوة مع ما بقي يحتفظ به من أعمال «أجاثا كريستي» المترجمة والتي اشتراها حينما كانت تُباع على نفس الرفّ الذي تُباع عليه أشرطة سلامه العبدالله وعيسى الأحسائي آنذاك في محطة الوقود المجاورة لقريتهم في حقبة زمنية ماضية، ينام أبو لطيفة متصالحاً مع نفسه، ومرتاح البال، لا يحمل على أحد شيء ولا أحد يحمل عليه، يغمض عيناه، تاركاً كل ضجيج هذا العالم وراء ظهره.
«أبو لطيفة» و»أوليفيا لاينغ» شخصيتان متشابهتان، جمعتهما «العزلة» وفنُّ البقاءِ وحيدًا، بعد أن استطاعا أن يجعلا من وحدتهما مكاناً مأهولاً.