د. خيرية السقاف
كان القارئ نهماً لا يكاد يتنفس صبحٌ إلا هو عند أقرب متجر يبتاع الصحيفة، وإن كان امرأة أرسلت من يبتاعها وهي تنتظر بفارغ الصبر عودته بها، إذ كانت الصحف منصة لما يفضي به أصحاب القلم، ويبوح عنه المبدعون، ويناقشه الناقدون، ويُخبر عنه المراسلون، فيطلع القارئ على الجديد، ويكتشف المجهول، ويتفاعل مع الأفكار، ويتبادل الآراء مع ما تنشره، أو مع من يقرؤونها معه..
ولأن للصحيفة ورقاً له رائحة مقرها تجاويف حسِّه، وذائقته.. فإنها مصدر متعته، لا تبارح شغفه، كالعطر المعتق، وكالسجية السمة لازمته عنايته باقتنائها، وقراءتها، بل كانت المصدر الرابط بين مثقفي وأدباء الوطن، فهم من يقدمها للقارئ وفق منهج كل منهم الفكري..
ذات نشأة، بين الملز، والبطحاء، حيث كانت تنتشر المكتبات الثرية، والورقية كان صبي صغير يصلي الصبح ثم ينطلق على عجلته من دارنا لتكون الصحف الأثيرة بين أيدينا باكراً، فلا طاقة فينا لانتظارها فقد كانت محضناً لشغب طفولة، ونهم طُلعةٍ..
هذا في أيام الإجازات، أما في غيرها فالشغف لا يهدأ بندوله حتى نعود من المدرسة لنتاولها قبل استبدال ملابسنا، أو استطعام طعامنا.. دون مبالغة كانت طعامنا الشهي..
قصة القارئ، والكاتب مع الصحيفة الورقية حكاية طويلة لرواية زمن من التفاعل، والتبادل، والثراء، حيث كانت بيت الأدباء، ومتكأ كلماتهم، ومسرح فكرهم، وميدان مناظراتهم، ومآل الذوَّاقة من القراء..
في تلك المرحلة أقبل عليها كل ذي موهبة، وما كانت إلا الملاذ من وحشة الفراغ حين الناس لا يشغلهم غير المدرسة، والعمل، والتبضّع المعيشي، واللقاء بالأهل، والأصدقاء، فاكتسبت قيمة في حياتهم، وسادت في أيامهم رافداً، ونزلت في أوقاتهم رفيقة، كوجبة إفطار خفيفة، جوار الكتب وجبة الغداء الدسمة..
ثم تطورت الصحف، شأن الحياة وهي تلف بدولابها نحو المزيد، والإضافي، والجديد في مضمونها الذي يواكب مهنتها، وآلياتها، ومتطلبات المجتمع، فكراً، وحاجات، ومستجدات على اختلاف، وتنوّع أصعدته، وتطلعاته، وأخباره، وروافدها التي غدت عصب الصحيفة، إضافة إلى ظهور الصورة، وتوأمتها بالخبر بحيث غدت الصحيفة مهنة تغرف حبرها من شلال الأخبار، وترسم ظاهرها بصورة الأحداث، وصانعيها، وتضاءل فيها التركيز على مسرح الأدباء، ومثقفي المجتمع، وبضاعتهم..
ثم واكبت في تطورها تطور مهنيتها، وكبرت في عدد صفحاتها، وفي حجم مسؤوليتها، وفي تخصيص صفحاتها، وفي استقطاب محرريها، وفي التركيز على تخصصهم المهني، إذ لم تعد تستقطب الأدباء، والمفكرين، والشعراء إلا في زوايا خاصة، أو فيما تخصهم به من صفحات تشير ترويستها إلى مكانهم، وأصبحت بكلها تركض للسبق الصحفي نحو جديد الخبر السياسي، والسيادي بالصورة، والتقرير والتحليل، وباتت نافذة تشرف على منصات الساسة، ومساحات السياسة، وأخبار الدبلوماسية، ومؤشرات المال، والاقتصاد، والصناعة، وجميع الشراكات العالمية، واتسعت بذلك مساحات توزيعها، وتغيَّرت ألوانها، ومع زيادة صفحاتها عدداً، وكتَّابها نوعاً، اتجهت للعناية بالأحداث، حيث قُننت وسائلها، ومضمونها، وطُورت مكنتها، وصنعت منحىً مختلفاً عن بداياتها، ثم تنافست في مضمارها مع نظيراتها، ما أدى ذلك إلى انزواء الثقافة، والأدب فيها في صفحات تتفاوت محتوىً، وكتابا..
على سقف قرائها، ومتابعيها حتى أصبحت شريكة رشفة القهوة والعصير والشاي في صباحات النهمين لمتابعة ما تطرحه على صفحاتها، وكونت ذوقاً اجتماعياً مختلفاً عن ذوق من سبق، وبالتالي ذائقتهم، بمحتوى أنهارها مما يخدم معرفتهم، ويأخذهم إلى كرة أرضية مصغَّرة، غدت فيما بعد شاشة صغيرة بين أيديهم، مع قفزة التقانة الإلكترونية اتجه قراؤها للقرية الصغيرة التي جمعتهم في مساحة كف واحدة..
اليوم، غادرها قراؤها إلى هناك، فاضمحلت، وكأنها شاخت فضمرت، فتركها أبناؤها في زاوية صغيرة من ركن البيت، لا يمر بها، ويعنى بحضورها إلا الخلَّص الذين بقوا على وفاء لرائحة حبرها، وملمس جلدها..
ترى لو بقيت الصحافة الورقية على قارعة الطريق بوصلة كما كانت، هل في ظل أحداث العالم، واختلاف مصادر أخباره، وفيضان المتطفلين، وهيمنة الجائحة التي تمر بالإنسان ومتعلقاتها سوف تُجهد أبصار سكان القرية الصغيرة، وتشوش على بصائرهم كما تفعل أجهزتهم من تشتت معلوماتهم، وفقدهم التركيز، وإتاحة ظهور هذا الغثاء البشري فكراً، وخلقاً، وقدرة على تجاوز خطوط النبل، والأدب، والذوق، والفكر الباني؟!..
بل إنها سوف تبقى شاهداً لنور، في عصر شُغِل بنار طريق افتراضي..
أجل ستبقى الصحيفة الورقية شاهداً على قواعد أبنية لن تفنى..
وإن غادرها الجميع، ستبقى لها ثلة الأوفياء..