عمر إبراهيم الرشيد
لم أكد أصدق عيني حين قرأت تقريراً صحفياً موثَّقاً من واشنطن نشرته إحدى الصحف، بأن الولايات المتحدة قد أغلقت آخر مصنع للأسبرين في أمريكا عام 2002، وآخر مصانع لفيتامين سي في نفس الفترة تقريباً، أما آخر مصنع للبنسلين فقد تم إغلاقه عام 2004! فهل في هذا ما قد يفسِّر سبب الهلع الحاصل في أمريكا وتساقط الضحايا بالمئات يومياً مع هذه الجائحة. هل هي العولمة حين تعاظمت والتجارة حين غدت هي المتحكِّم في مصائر الشعوب، حين فتحت أمريكا حدودها للتجارة الحرة مع الصين بداية الألفية الثانية، فبدأ طوفان المنتجات الصينية بما فيها الأدوية والأدوات والملابس الطبية تغزو أمريكا والعالم، فكان إغلاق المصانع بدعوى أن استيراد المنتجات الصينية وسلاسل إمدادها حتى في أساسيات الحياة أوفر من التصنيع في أمريكا نفسها، لأن المنتجات الصينية أرخص ثمناً ومدعومة من الحكومة الصينية. إن هذه الجائحة أدخلت العالم في وضع أشبه ما يكون بحالة (الحرب)، حيث تصدر قوانين جديدة وتجمد أخرى كانت قائمة، وتتدخل الحكومات حتى في القطاع الخاص، وأقرب وأوضح مثال هو أمريكا كونها معقل الرأسمالية والفردانية والقطاع الخاص، حين قلبت إحدى أكبر شركات تصنيع السيارات مثل فورد خط إنتاجها لتصنيع أجهزة التنفس الصناعي، وأخرى ركزت فقط على تصنيع الكمامات والقفازات وغيرها من الأدوات الطبية، بل إن الرئيس الأمريكي أجبر شركة (ام 3) على إنتاج المزيد من الكمامات ووقف التصدير إلى كندا وأمريكا اللاتينية. وهذا ما كان ليحدث إطلاقاً في وقت (الرخاء) أو الاستقرار لأن النظام الرأسمالي يمنع تدخل الحكومة في شؤون القطاع الخاص إلا في أضيق الحدود.
هي الدروس والعبر التي يرسلها الخالق العظيم تترى ليل نهار وما هذه الجائحة إلا من أعظمها عبر التاريخ بلا مبالغة. نعود إلى موضوع هذا المقال، يقول بيتر نافارو المستشار الاقتصادي للرئيس ترمب «تعلمنا الدرس وسوف نقلِّل الاعتماد على الدول الأخرى ونعيد بناء قدراتنا الخاصة لإنتاج الأدوية والمواد الطبية». ويقول كذلك «بصرف النظر عن المعاهدات والتحالفات، فإن الخطر كأمة هو عدم امتلاك ما نحتاجه!». هل فيما قاله جديد؟ بالطبع لا ومن لا يملك احتياجاته الماسة فهو في حالة من حالات الضعف، تتباين في ذلك الدول حسب قدراتها وإمكاناتها وظروفها. وهنا لا بد من النظر إلى أنفسنا والاعتبار بغيرنا، ولله الحمد والمنَّة كان لسرعة اتخاذ التدابير الوقائية من قبل حكومة المملكة، ورغم شدتها وقسوة وقعها أحياناً مثل إغلاق المساجد وتعطيل الدراسة والعمل، إلا أنها بذلك سبقت دولاً كنا نظن أنها محصنة نسبياً ضد تداعيات هذه الجائحة. كما أن تجاوب الشعب والإخوة المقيمين كان له الدور المكمِّل ودالاً على الوعي وحس المواطنة. والحق يُقال ضربت وزارة الصحة بمختلف قطاعاتها وطواقمها الذين هم جنود الداخل وجبهة الحماية الطبية والإنسانية أروع الأمثلة في إدارة الأزمة، كما أظهرت وزارة الداخلية بمختلف قطاعاتها احترافية إدارة الطوارئ وحماية الأمن وتطبيق القوانين. بعد كل هذا أقول وكما يقول غيري، فإن الإستراتيجية الصناعية وضمن رؤية المملكة 2030 لا بد من أن تفيد من هذه الأزمة بالنظر إلى المثال الأمريكي والأوروبي ومدى خطورة ومعنى الصناعات الإستراتيجية بمختلف أغراضها، فالدول الناهضة مثل كوريا وسنغافورة، بل والصين نفسها، قد ابتدأت من حيث انتهى الآخرون وهذا ما يتمناه كل مخلص على هذه الأرض الطيبة، وما البدء بتصنيع أجهزة التنفس الصناعي بمعدل 1000 جهاز أسبوعياً إلا أولى البشائر للتحوّل الصناعي السعودي المأمول -بإذن الله تعالى-، إلى اللقاء.