د.عبد الرحمن الحبيب
منذ القدم، أثرت الأوبئة في شكل المدن الكبرى من هندسة المنازل وتهويتها إلى تخطيط الأحياء وتصميم الميادين العامة وتحديد الكثافة السكانية في أجزاء المدينة، إلى قنوات توصيل المياه وشبكات الصرف الصحي.. وحتى إلى حدود أسوار المدينة وما جاورها من مواقع زراعية أو صناعية أو مقابر.. فما الذي يمكن لوباء كورونا المستجد عمله في إعادة تشكيل مدننا الحالية؟
هل ستتغير طبيعة مواقع العمل والمراكز المالية والأسواق التجارية (المولات) وصالات العرض عن سابق عهدها بكثافة تجمعاتها البشرية؟ الوباء بدأ بالفعل بهذه المهمة، بزيادة العمل عن بعد، وعدم ضرورة ذهاب كثير من العاملين إلى مقر أعمالهم، وعدم حاجة المتبضعين لمغادرة منازلهم، وصالات العرض صارت تجمع العائلة في المنزل لمشاهدتها.. فيما أُرسيت أساليب التباعد الاجتماعي مع أنظمة مكانية وزمانية للتنقل.. لكن بعضها قد يقل أو يزيد، وبعض آخر لم يعرف بعد.. فبماذا تنبؤنا التجارب التاريخية السابقة؟
سجل التاريخ تغيرات عميقة بقوانين وهوية المدن جراء الأوبئة، ومن أشهرها مدينة أثينا عقب طاعون عام 430 ق م. إلا أن الأوبئة لم تغير شكل المدن فحسب، بل إنها غيرت شكل التاريخ البشري إذ إن بعضها أثار اضطرابات اجتماعية وسياسية أعادت رسم الخرائط. فمثلاً، في زمن انتشار الطاعون إلى عام 750م انخفض سكان روما لنحو ثلاثين ألف شخص (إليزابيث كولبرت، صحيفة النيويوركر). الطاعون، أيضًا، قضى على نحو ثلث سكان أوروبا بالقرن الرابع عشر، وكذلك فعل الجدري بالقرن الخامس عشر بأوروبا وآسيا.. وجلب الغزاة الأوروبيون إلى سكان أمريكا الأصليين أوبئة يعتقد أنها فتكت بأكثر من 80 في المائة منهم.. كتب وليام دنيفان (جامعة ويسكونسن)، «لقد أعقب اكتشاف أمريكا أعظم كارثة ديموغرافية بتاريخ العالم»؛ غيرت مسار التاريخ ليس فقط بأوروبا والأمريكتين ولكن أيضًا بإفريقيا: في مواجهة نقص العمالة، تحول الإسبان بشكل متزايد إلى تجارة الرقيق.
بعد أكثر من 350 عامًا، تقع أهم مدينة أمريكية (نيويورك) في فخ وباء آخر.. إنه الكورونا، حيث تزيد الإصابات فيها أكثر من أي مدينة بالعالم. كتب جيمس نيفيوس: من المفيد التذكير أننا كنا هنا سابقًا: من الحمى الصفراء والكوليرا إلى شلل الأطفال والإنفلونزا الإسبانية؛ لقد تم تحديد شكل المدينة منذ فترة طويلة من خلال استجابتها للأوبئة. إن إنعام النظر في تفشي المرض بالماضي يوفر رؤية ثاقبة على مرونة تشكل المدينة، والطرق التي قد يعيد فيها الوباء تشكيل نيويورك مرة أخرى (كوربد نيويورك). الأوبئة شكلت نيويورك منذ إنشاء شبكة الصرف الصحي، وتنظيم مواقع حيوانات الماشية والمسالخ والمدابغ إلى الساحات العامة والحدائق والمباني الحكومية والأحياء السكنية وتصميم الشقق والمنازل بما فيها المطابخ والحمامات (إجبارية النوافذ والبلكونات) وإعادة صياغة سياسة الإسكان..
نيويورك نموذج للمدن المفرطة في عولمتها، فضلاً عن أن العولمة قاربت بين الدول وتزايد سفر الأفراد بينها؛ وتزامن ذلك مع ارتفاع عدد الأمراض المعدية (سارس 2003، إنفلونزا الخنازير 2009، كورونا 2012، إيبولا 2014، فيروس زيكا 2015، حمى الضنك 2016..)، فصارت الفيروسات تنتشر بشكل أسرع وأكثر من أي وقت مضى.
فإلى أي مدى سيمحو الوباء مظاهر عولمة المدن ويترك بصماته؟ بالأساس سبق لبعض الدول أن حوَّل الضغط السكاني من وسط المدينة إلى أطرافها، وحتى تحويل العاصمة الرسمية إلى مدينة أصغر، وكذلك توجه السكان الأغنياء للانتقال إلى أطراف المدينة أو المدن الصغيرة المجاورة التي تقدم ملكية أرخص وجودة حياة أعلى، ومما زاد في ذلك هو خاصية العمل عن بعد..
العمل عن بعد قد يخفض تكلفة ابتعاد المسافة عن موقع العمل، وتقوم المزيد من الشركات بوضع أنظمة تمكن الموظفين من العمل من المنزل نتيجة أزمة كورونا.. وقد اعتاد كثير من الموظفين عليه «هذه عادات من المرجح استمرارها» كما تقول كارين هاريس، المدير الإداري لمجموعة ماكرو ترند (استشارات التركيبة السكانية والأتمتة).
قد يكون التأثير المحتمل الآخر لكورونا تكثيف البنية التحتية الرقمية في مدننا.. والتوسع في بناء المدن الذكية باعتبارها أكثر أمانًا من منظور الصحة العامة (جاك شينكر، الغاردين). كما قد تؤدي لنوع من التباعد الاجتماعي، وانعزالية المدن عن بعضها، والحد من الهجرة بين الدول. من المفارقات أن التباعد الاجتماعي قد جعل البعض منا أقرب من أي وقت مضى.. وظهر مزيد من الاهتمام بكبار السن الذين يفتقرون إلى الرعاية الاجتماعية الكافية وإلى ذوي الأجور المنخفضة والمحرومين (جاك شينكر، الغاردين)..
يعتقد ريتشارد سينيت (أستاذ الدراسات الحضرية، معهد ماساتشوستس) أنه في المستقبل سيكون هناك تركيز متجدد على إيجاد حلول التصميم للمباني الفردية والأحياء الأوسع التي تمكن الناس من الاختلاط بالآخرين دون أن يتم تعبئتهم «مثل السردين» في المطاعم والحانات والنوادي المضغوطة، على الرغم من التكلفة العالية جدًا للأراضي في المدن الكبرى، فالنجاح يعتمد على إصلاحات اقتصادية مهمة أيضًا.
هل ستتغير سياسات تخطيط المدن والإسكان وطبيعة المعيشة فيها؟ من المبكر الإجابة، لكن من شبه المؤكد أن فيروس كورونا سيصنع تاريخًا جديدًا خاصًا به.. إِذ يبدو أن «التاريخ لا يكتبه الإنسان فقط ولكن أيضًا الميكروبات»، كما كتبت إليزابيث كولبرت.