وحدة الأبحاث الاقتصادية بـ«الجزيرة»:
حتى وقت قريب كانت التقارير الدولية تشير إلى استمرار الصين كوجهة مفضلة لاستثمارات الشركات المتعددة الجنسيات.. فكل التفاؤل الاقتصادي في العالم كانت تجني ثماره الصين شئنا أم لم نشأ.. فحتى معدلات النمو الاقتصادية كان ارتفاعها العالي من نصيب الصين، حتى وصل الأمر إلى اتهام الصين بأن معدلات نموها العالية تعد هي السبب الرئيس وراء حالة التضخم العالمي التي تصدرها الصين للعالم مع صادراتها التي بدأت تستحوذ على الحصة الرئيسة في التجارة العالمية.
فحسب آخر تقرير للاستثمار العالمي صادر عن الانكتاد في 2019، وعلى الرغم من الاعتراف بتراجع حجم الاستثمارات الأجنبية عبر العالم، إلا أن الصين كانت لا تزال هي الوجهة المفضلة لتلك الاستثمارات الأجنبية وخصوصًا التي تأخذ شكل الشركات متعددة الجنسيات.. هذا رغم ما نشره الرئيس ترامب مؤخرًا عن تراجع الشركات المتعددة الجنسيات عن الاستثمار بالصين كوجهة مفضلة.. إنها حرب تجارية استخدمت فيها الولايات المتحدة كافة أشكال القيود لتقييد حركة الشركات متعددة الجنسيات من أجل حثها على الاستثمار في الولايات المتحدة وخلق الوظائف التي تمثل الهدف الشعار للرئيس الأمريكي.
في خضم هذه الخريطة الاقتصادية في العالم يأتي كورونا الذي بات ليس كمجرد فيروس يأتي ويختفي ولكنه يبدو لديه الإصرار الكافي لتغيير الخريطة الاقتصادية الراهنة في العالم.
هذا الفيروس لم يأت من دولة خاملة ولا من بيئة غير اقتصادية ولكنه خرج من الصين «الدولة الصاعدة بقوة» اقتصاديًا وصناعيًا.. فبلا شك أن هذا الفيروس سيترك لسنوات طويلة انطباعًا ذهنيًا سلبيًا عن الصين والمنتجات الصينية.. ومهما فعلت الصين لتغيير هذا الانطباع الذهني فقد يكون من الصعب جدًا على مستهلكي العالم نسيان الفيروس الصيني وطريقة غذاء الشعب الصيني غير المستحبة لدى أغلبية سكان العالم.. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستستمر الشعوب بالعالم في التكالب على المنتجات الصينية بنفس المعدلات الكبيرة الحالية كما هي خلال فترة ما بعد كورونا؟
أليس من المنطق أن يسعي الجميع إلى الخروج عن العباءة الصينية خوفًا أن ينالهم ما ينال الصين من تشوهات في المجتمع العالمي؟
ما هو تأثير «كورونا الصيني» (كما يحلو للرئيس الأمريكي أن يسميه) على خريطة إنتاج الشركات متعددة الجنسيات؟ البعض يعتقد أن الرئيس الأمريكي يداعب أو أنه لا يقصد شيئًا من وراء الفيروس الصيني، ولكن بنظرة متدبرة سنلحظ أن مصطلح «الفيروس الصيني» أحد أسلحة الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، حيث إن الرئيس الأمريكي يرغب بقوة في أن يعترف التاريخ ويوثق بأن الفيروس خرج من الصين وهو صيني.. وهذا الاعتراف لو صدق وتم التوثيق العالمي بهذا المصطلح ستكون كارثة حقيقية على الصين والاقتصاد الصيني.
التداعيات على الشركات متعددة الجنسيات
الشاهد أن الشركات متعددة الجنسيات من المتوقع بقوة أن تتخارج عن الصين بشكل رئيس خوفًا أن ينالها ما سينال الصين من هجمة مجتمعية تنصب على منتجاتها لو تم إنتاجها بالصين.
لذلك، فإن أولي التأثيرات الاقتصادية الأساسية لكورونا ستتجلي في تغيير حقيقي وكبير في خريطة توزيع الشركات متعددة الجنسيات في العالم.. الأمر الذي يتوقع أن يترك تداعياته الكبيرة على القواعد الإنتاجية الكبرى في الصين، ومن ثم وفي سياق توقعات توقف العجلة الإنتاجية في الدول السبع الصناعية الكبرى في العالم: الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإسبانيا وإيطاليا... والصين، فإن حالة ركود اقتصادي متوقعة وبقوة خلال النصف الثاني من هذا العام.
إلا أنه نتيجة عدم وجود رؤية واضحة للفترة المرتقبة للخروج من هذه الأزمة الكورونية، فإن هذا الركود لو ترك من دون سياسات اقتصادية توسعية واضحة خلال الشهور الثلاثة المقبلة، يمكن أن يتحول إلى كساد كبير يضاهي الكساد الحادث في عام 1929 من القرن الماضي الذي يعد بمنزلة الأزمة الاقتصادية الأكبر والأضخم التي مر بها العالم في العصر الحديث.
وينبغي أن نتذكر أن حجم الخسائر في الوفيات نتيجة كورونا حول العالم، من المتوقع إن استمرت بهذا المنوال أن تزيد على 103 آلاف شخص خلال الشهور الثلاثة المقبلة وهي أعلي من تقدير منظمة الصحة العالمية.. إلا أننا يجب أن نتذكر أن إنفلونزا الخنازير كجانحة عالمية تسببت في وفيات تفوق هذا الرقم بكثير وصلت إلى 280 ألف شخص.. إلا أن إنفلونزا الخنازير لم تتسبب في هذا الكم الكبير من الخسائر الاقتصادية التي يسببها كورونا حاليًا.
كورونا تسبب في حجر صحي لكل دول العالم تقريبًا، بل إن دول العالم العظمي دخلت في عزلة صحية تامة، حتى إن كثيرًا من زعماء العالم باتوا تحت قيود الحجر الصحي أنفسهم.. إذن الفيروس الصغير بات يهدد الحياة الإنتاجية والاقتصادية، بشكل لم يسبق له مثيل. بالفعل توجد فرص اقتصادية سانحة نتيجة توقف الإنتاج والحياة في كثير من الدول وعلى رأسها إيطاليا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.. ويمكن استغلالها من الدول العربية وعلى رأسها المملكة.. ولكن يعوقها بشكل مماثل القلق من الحركة الحرة للعمالة والعجلة الإنتاجية التي توجد مخاوف من تسببها في نشر وتفشي الوباء.
توجد كثير من التقارير الطبية تؤكد على أن احتمالات التفشي في درجة الحرارة المرتفعة تبدو ضئيلة للغاية.. وحيث إن المملكة بدأت فيها درجات الحرارة في الارتفاع فتبدو الفرصة سانحة لاختيار مدن معينة معزولة وعزل عمالتها ولتبدأ في إنتاج المنتجات التي تحتاجها الدول المنكوبة بالوباء، وعلى رأسها الغذاء بكافة أشكاله حسب العادات الثقافية والاستهلاكية لدى هذه الدول، وأيضًا الخامات الطبية والدواء.
إن وحدة أبحاث الجزيرة توصي الجهات الحكومية المعنية باختيار مناطق صناعية بعينها ويفضل أن تقع خارج المدن العمرانية وعزلها تمامًا وتمكينها من الإنتاج.. والحديث هنا يرتبط بارتفاع معدلات درجة الحرارة التي تمنع نشر الفيروس وإن كانت لا تمنع بقاءه وحضانته. أما الفرصة الثانية المتاحة للمملكة، فهي انحسار الصين وقبول منتجاتها لفترة من الزمن سيعطي الفرصة الكاملة للمنتجات السعودية للمنافسة في الأسواق الخارجية.. فالصين كانت تستخدم الإغراق وكانت تمنع بقوة ووضوح أي منتجات محلية لأي من الدول العربية الموجهة للتصدير من حصولها على أي حصص سوقية حتى أن بعض الدول تعاني من عدم قدرتها على تجربة منتجاتها بالأسواق الخارجية.
وبالطبع هذه الفرصة يمكن استغلالها للمنتجات السعودية المنتجة والمخزنة حاليًا. فالصين لم تكن تنافس في السوق الصيني ولكنها مشكلتها أنها تنافس منتجاتنا الوطنية في كل دول العالم.. الآن تبدو الفرصة سانحة لكي تتنفس منتجاتنا الوطنية الصعداء.
يكفي أن نعلم الآن أن آخر توقعات لمجلة «الإيكونوميست» بأن النمو في الصين سيهبط إلى 2 في المائة خلال الربع الأول، وهو ما سيكون أضعف معدل منذ عقود، ويقارن بـ 6 في المائة خلال الربع الماضي..
وتتوقع وحدة أبحاث «الجزيرة» أن تحقق الصين معدل نمو اقتصادي يناهز الصفر في المائة خلال الربع الثاني من هذا العام.. لأن مشكلة الربع الأول كانت تتعلق بالعرض وارتباط العملية الإنتاجية بالصين.. وفي اعتقادنا أن الصين بدأت تستوعب مشكلات العرض وبدأت تصوب العمليات الإنتاجية لتستمر حتى لو استمرت وتزايدت الإصابات.. إلا أن الربع الثاني ستشهد الصين فيه تأثيرات جانب الطلب الذي نتوقع أن ينحصر كثيرًا نتيجة مخاوف الدول من استيراد كورونا مع المنتجات الصينية. بصفة عامة، من المتوقع أن تقود كورونا عملية نحو توطين الشركات متعددة الجنسيات وعلي رأسها الشركات الأمريكية وتغيير وجهاتها المفضلة لسلاسل الإمداد الدولية التي كانت تتمركز حول الصين، وإمكانية التخارج منها إلى وجهات جديدة، يبدو أن الجميع كمسؤولي هذه الشركات يدرسونها بعناية الآن: ما التوجهات الجديدة لهذه الشركات؟ هل ستكون باتجاه الغرب أم الشرق أم الجنوب؟
في اعتقاد وحدة أبحاث «الجزيرة» أن المملكة العربية السعودية تعد أحد أهم الوجهات المفضلة حاليًا لأنها تمثل مركز متوسط للعالم من ناحية، ولأنها سوق يمتلك كثيرًا من المزايا والمكتسبات كبيئة تجارية وصناعية دولية.