د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
خلال الحضور الكثيف في المنازل في زمن الكورونا من منطلق وقائي احترازي على مستوى الدولة ومن قناعة ذاتية بالجدوى والنتيجة بإذن الله؛ ومن إحساس وطني عميق بدور المواطن في تحقيق النجاحات الوقائية والعلاجية! وتأسيسا على الواقع والحال فقد تفطنت وزارة الثقافة إيمانا بمسئوليتها الوطنية عن تنمية الفكر الإنساني ودعم العقول الوطنية وسقيها بموارد الثقافة، فأطلقت منصة ثقافية [الثقافة في العزلة] لمواكبة فترة العزل الوقائي؛ وتوفير أنشطة ثقافية تعود بالفائدة على المجتمع بمختلف شرائحه، وتصدرت القراءة تلك المبادرات بعنوان محفز موسوم «بماراثون القراءة» الذي سيتنافس فيه الجمهور -صغاراً وكباراً- على القراءة المفتوحة المتنوعة؛ ومن ثم المشاركة بقراءاتهم واقتباساتهم في المنصة الإلكترونية الخاصة بالماراثون وهي التي تحتفي وتستقبل مشاركات القراء من مختلف الشرائح، وذلك وفق مسارين رئيسين؛ الأول للقراء من صغار السن ممن هم دون الثانية عشرة؛ والمسار الثاني يواكب القدرات القرائية عند الكبار من مختلف الشرائح الاجتماعية.
وأوضحت الوزارة أن المشاركة متاحة لجميع القاطنين في المملكة من مواطنين ومقيمين، كما كشفت أن أحد أهداف المبادرة يتمثل في الوصول إلى 100 ألف صفحة مقروءة أسبوعياً.
ويتم للقراء المشاركين تسجيل اقتباساتهم من الكتب التي قرأوها خلال فترة الماراثون عبر المنصة الإلكترونية المخصصة، إلى جانب تسجيل عدد الصفحات التي قرأوها منذ الإنجاز الأول وما يليه؛ ووعدت الوزارة أنه سيتم الإعلان عن عدد الصفحات المقروءة بشكل يومي، بالإضافة إلى نشر الاقتباسات بشكل أسبوعي؛ كل ذلك عبر المنصة الإلكترونية، وذلك لضمان الاستفادة من قبل الجميع بما ينمي حصيلتهم المعرفية واللغوية والفكرية، وفي الحقيقة يحتاج المجتمع في كل الأوقات إلى تحفيز على القراءة الناقدة الواعية وهو في هذه الأوقات أحوج لتحقيق التوازن بين ما يحمل مضامين سلبية من التصورات التي ولّدها واقع الداء المؤلم في بلادنا والعالم، حيث يغزو البث المثير للخوف كثيرا من وسائط التواصل المجتمعي؛ ويحمل معه قلقا اجتماعيا من المجهول على الرغم من منصات التطمين من مواقع المسئولية في بلادنا التي ما زالت تؤكد على التصدي للتأويلات والشائعات من خلال تلقي المعلومات والأخبار من المصادر الرسمية؛ والمبادرة التي أطلقتها وزارة الثقافة تؤكد أن القراءة هي حلة فكر فاخرة؛ ومن خلال الوعي بأن لكل مبادرة دواعٍ ومحفزات، فإن من الأهمية أن تبادر وزارة الثقافة بإيجاد محفزات للقراءة في زمن العزلة بما يعزز الثقافة العامة باحتضان النموذج القرائي الجيد داخل المحيط الأُسري وصناعة القارئ الذي يقرأ وهو شغوف بتلك الكواشف القرائية المفيدة؛ فيعتبر ذلك من قبيل تطوير ثقافة الأجيال في الأسرة والمجتمع؛ وغالبا ما نسمع أخبارا خجولة عن واقع القراءة في المحيط الأُسري؛ وبالتالي المحيط المجتمعي، والنبض الخافت حول ذلك؛ وتسطيح واقعه دون حلول؛ وذلكم لعمري شروع في دفن الثقافة القرائية، وخواء دارها؛ فالحضور القرائي اليوم لابد له من قيمة جديدة؛ حيث لم نر في جيل اليوم من يقرأ كالأسلاف دون أن يملّ، فمن الحقائق التي يحتم الواقع والعصر التوقف عندها أن الوسائط التبادلية والتفاعلية أصبحت تزاحم الأسفار والطروس، فينبغي أن ترصد الجهود لتحويل الكتاب رقميا وبثه في قنوات العصر للناشئة؛ ومن خلال البناء الأُسري المتكامل المدعوم من قنوات المجتمع المحلي؛ يلزم أن تقول الأسرة كلمتها في أهمية القراءة كمحفز أولي للتفكير، والنمو المعرفي كما يلزم تنمية الشغف القرائي لدى أفراد الأسرة، وتشجيع القراءة الناقدة لتكون ممارسة تلقائية تؤسس لبناء الرأي، وتوقد الذهن، وتكون حاضنة لكل مقوماتالفكر الناضج، ونؤكد أن هناك تكاملا بين جودة المنتج القرائي وبين محفزات الفكر المعتدل القويم؛ الذي ينطلق منه بناء الأسرة السليم، ومن ثم بناء المجتمعات بناء وجدانيا تشرق في أروقته الحياة، وتنتشر ثقافة الخلق القويم، وإشاعة المحبة، وزرع مساحات خضراء تورق فيها النفوس، وتندفع للبذل والإيثار؛ كما لا ننسى أن تنمية الذائقة اللغوية عند الأجيال مصدره قراءة إبداعية وافرة وأجزم أن الحال اليوم يحتم أن يكون ماراثون القراءة برنامجا استراتيجيا ذا أهداف ممتدة، ويجب أن يكون لوزارة التعليم دعم في المبادرة وأن يرصد التحصيل القرائي فيما يخص المتعلمين كأساس من مقومات النجاح وأسبابه واجتيازه، كما أرى أن لوزارة التعليم أيضا دورا آخر لتنمية الشغف القرائي، فالقراءة وإن كانت مكتسبات فردية فهي أيضا من الدعائم الأسرية للنمو الصحيح، فإذا ما صفت مصادر القراءة، ودخلت الأوعية القرائية كل بيت، وأحسن إليها ممن يقود نشاطاتها, فإنها ستكون -بإذن الله- كفاءة محفزة للفكر الإنساني، وذخيرة إيجابية في مراحل الزمن المختلفة يستفاد منها في مواقف الحياة؛ كما أن القراءة في وقتنا الحاضر مصفوفة توضيح عليا للوعي المجتمعي بقيمة الحياة وعمارة الكون فنحتاج إلى صناعات ثقيلة للفكر من خلال الكتاب لتصبح المكتبات المنزلية رئة يتنفس منها قاطنو المكان؛ يحيطها قدر كبير من الانفتاح على آفاق الوطن؛ وفي زمن العزلة، الذي نسأل الله زوال أسبابه وعهود الاندماج والعمل القادمة -بإذن الله-.