حمّاد السالمي
* ملازمة الدار أثناء أزمة (كورونا) لا تخلو من فوائد. وجدت فرصة جيدة خلال هذه الملازمة الاجبارية؛ لمراجعة قوائم الأصدقاء والزملاء في جهاز الهاتف، ومن ثم الاتصال بهم، وسماع أصواتهم، بعد أن فصلت بيننا قنوات (التفاصل) الاجتماعي منذ زمن بعيد، فحرمتنا متعة هذه الحميمية التي تطوي المسافات صوتًا، لا صورة جامدة، ولا رسالة صامتة.
* من بين أصدقائي الحميمين الذين هاتفتهم واستمتعت بأصواتهم؛ الأديب والكاتب التونسي (البشير السالمي)، نزيل المنزه التاسع بتونس العاصمة. تحدثنا مستحضرَين أيام الصفاء في تونس الخضراء في أعوام فارطة. قال لي: نحن يا سيدي في (محبس كورونا).. هل أنتم مثلنا في (محبس لكورونا)..؟ قلت له متلطفًا: بجوارنا في مكة المكرمة يا سيدي منذ أربعة عشر قرنًا؛ محبس تاريخي عظيم اسمه: (محبس الجن)، وأنتم ونحن وكل العالم اليوم؛ في محبس واحد هو (محبس كورونا).
* تعالوا إذًا ننطلق من (محبس الجن). أولاً.. الجن مخلوقات تعيش في ذات العالم الذي نعيشه، ولكن لا يمكن رؤيتها عادة، وهي خارقة للطبيعة التي تدركها حواسنا، ويقال: إنما سميت بذلك لأنها تستتر ولا تُرى. وقد ورد ذكر الجن في القرآن الكريم في تسعة عشر موضعًا، ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم؛ أرسل إلى الثقلين الإنس والجن معًا. وفي مكة المكرمة بين العزيزية وأجياد في المفجر؛ مكان يسمى (محبس الجن)، سمي بذلك على ما تذكر الروايات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم التقى فيه بنفر من الجن فدعاهم للإسلام، أو حبسهم فيه. (جن نصيبين). وتجاوزًا لهذه الروايات ما صح منها وما لم يصح؛ فالمكان ظل حتى اليوم يحمل هذا الاسم، وظل ما هو أهم من المكان، ألا وهو (الخوف من الجن).. نعم الخوف الملازم للإنسان من عوالم غيبية لا يراها، وتنسب لها الكثير من الخوارق التي تعتري البشر، فتؤثر في حياتهم، بل تهدد الكثيرين منهم بالجنون والموت والفواجع.
* ما الذي يربط بين (محبس الجن) و(محبس كورونا) في يومنا هذا..؟ إنه الخوف.. نعم الخوف.. الخوف هو العامل المشترك بين عوالم خفية، ومخلوقات عجيبة تُنسج حولها الأساطير، وتروى الروايات، وتظل ذلك الهاجس المرعب الذي تقشعر منه الأبدان. وبين (فايروس كورونا covid 19)، الذي أخذ يهدد حياة البشر، ويضرب كافة المنظومات الاقتصادية والاجتماعية، حتى لأكبر الدول وأكثرها تطورًا وتقدمًا. الخوف من (كورونا)؛ لا يقل خطرًا عن الخوف من الجن. الخوف من الجن؛ خوف تاريخي أسطوري في ما يكتنفه من روايات بكافة اللغات، عن عوالم غيبية عدوة، بينما الخوف من (كورونا)؛ خوف معاصر من عدو معلوم معروف، ولكن لا حيلة لمواجهته حتى اليوم. ها نحن نشهد نتائج طبيعية لهذا الخوف من عمليات انتحار لمسؤولين وقياديين في دول غربية، وأناس هنا وهناك وصل بهم اليأس حد الانفجار فانتحروا. لقد لعب الدجاجلة والمرتزقة - ولحق بهم بعض الشعراء- منذ قرون وقرون.. لعبوا على وتر الخوف من الجن، حتى ظهر من يدعي العلاج وطرد الجني من الإنسي، وتم الخلط بين الجن والسحر، وساد في الذهنية العامة؛ أن كل مكان قفر مهجور؛ هو مسكون بالجن. فهذا شاعر قديم يرسم صورة موحشة لمكان فيقول:
وكثيرة غرباؤها مجهولة
تُرجى نوافلها ويخشى ذامها
غلب تشذَّر بالذحول كأنها
جن البديّ رواسياً أقدامها
وهذا شاعر آخر يمارس التخويف بالجن فيقول:
وبلدةٍ، لا ترام، خائفة
زوراء مغبرّة جوانبها
تسمع للجن عازفين بها
تضج من رهبة ثعالبها
* وضمن دائرة الخوف؛ جاء في المرويات العربية قولهم: إن (الوباء) لقي قافلة في طريقها إلى بغداد، فسأله شيخ القافلة: وفيمَ أنت مسرع إلى بغداد..؟ قال الوباء: لأحصد 5000 نسمة. فلما قفل الوباء راجعًا من المدينة؛ لقي القافلة مرة ثانية وهي راجعة، فقال له الشيخ ساخطًا: إنك خدعتني، فقد حصدت خمسين ألفًا بدلاً من خمسة آلاف..! فقال الوباء: كلا.. لم أحصد سوى خمسة آلاف، أما الجزع والخوف فهو الذي حصد البقية..! لا شك أن الخوف.. هو (أسوأ مستشار للإنسان). يكفي مطالعة بعض مدونات الاستشارات الطبية على الشبكة العنكبوتية؛ للوقوف على الحالة التي يعيشها الناس اليوم مع وباء (كورونا) اللعين. تتبعت القليل منها، ولم أستطع الاستمرار. الكل يشكو من الخوف والقلق والاكتئاب والوسواس. هذا يخاف الموت، وتلك تشعر أن المرض قريب منها. آلام وأوجاع وشعور ينتاب الكل؛ لأنهم ربما هم مرضى بـ(كورونا) أو بغيره. الأوهام سيدة الموقف لدى الكثيرين ممن يشكون ويتوجعون ويقولون: نحن مرضى بالخوف والهلع والقلق والأرق، ونشعر أن الموت قريب منا. يا للهول.
* بقي أن أنقل لكم ممالحة لصديق فكِه، سئم من محبسه (الكوروني)، فهاتفني قائلاً: بأن التزاور بين المحبين في حالة الإصابة بـ(كورونا) مرغوبة شعريًا على الطريقة النواسية..! ففيها شفاء بإذن الله، حتى لو وقعت الإصابة من الخوف، فالبرء يأتي مع النظر إلى وجه الحبيب..! يا سلام أيها الحبيب..! أورد لكم هذه الوصفة الشعرية على ذمة الصديق الفكِه، وعلى قولة أبي نُواس، دون تحملي لأي مسؤولية. قال أبو نواس:
مرِضَ الحبيبُ فعُدْتُهُ
فمرِضْتُ مِن خوفي عليهِ
فأتى الحبيبُ يزورني
فبَرِئْتُ مِن نَظرِي إليهِ