د. إبراهيم بن محمد الشتوي
ينقسم الباحثون في تعريفهم لتأريخ الأدب إلى قسمين؛ فمنهم من يرى أنه تاريخ في المقام الأول وإنما يعنى بالجانب الأدبي من تاريخ الحقبة السياسية المعينة، في حين يرى آخرون أنه دراسة أدبية باستعمال المنهج التاريخي، بمعنى أنه دراسة الأدب في حقبة تاريخية معينة، فيهتم بالشعراء وحيواتهم، والموضوعات التي تحدث فيها الشعراء أو الأدباء، كما يعنى بالتطور الذي أصاب الأدب سواء في الموضوعات أو الأنواع الأدبية، أو طرائق التعبير، ويربط ذلك في الظروف السياسية والتاريخية.
ففي التعريف الثاني الأصل هو الأدب وقضاياه، وربطه بالظروف التاريخية والسياسية لإضاءة الجوانب المختلفة من الأدب نفسه، في حين أن التاريخ في الأول هو الأصل، والنظر في الأدب بوصفه جزءاً من الحقبة دون الولوج في التفاصيل الدقيقة للأدب وقضاياه.
ويظهر الفرق بينهما بصورة واضحة عند التطبيق، من ذلك مثلاً قول كثير من الدارسين في تفسير شعر المجون في العصر العباسي من مثل ما هو عند والبة وبشار وأبي نواس وغيرهم، أنه انعكاس للمجون في العصر العباسي، فقد انتشر في أوساط الناس بصورة كبيرة، ويذكرون بعض الأسباب التي تجعل هذا القول معقولاً.
لكننا لا نتساءل ونحن نقرأ هذا التفسير، هل يمكن أن يكون هذا الشعر فعلاً انعكاساً للمجتمع العربي في القرن الثاني والثالث الهجريين، وهل كان أولئك القوم الذي أنتجوا تلك الحضارة منغمسين بهذا المجون والدعة على نحو ما يظهر في هذا الشعر؟ وهل كان المجون في القرن الثاني والثالث أكثر منه في العصر الذي سبق الإسلام حتى يؤثر على الشعر بهذه الصورة؟
هناك صلة بين المجتمع والشعر بالتأكيد لكن الأمر الأكيد -أيضاً- أن هذا الشعر ليس انعكاساً للمجتمع، ولا حتى انعكاس جزء منه كما يحلو للبعض أن يصوروه، وإنما هو انعكاس في الحقيقة للشعر نفسه، والفضاء الفني الذي يتحرك فيه، وهو الغناء والطرب والغزل، ومجال المتعة بوجه خاص أليس الشعر نفسه أداة للإمتاع والاستمتاع، ألم يقل قائلهم:
إذ الشعر لم يهززك عند سماعه
فليس خليقاً أن يُقال له شعر
والاهتزاز إنما يأتي من الطرب.
ومن خلال هذا المثال نستطيع أن ندرك الفرق بين التعريفين، فالنظر في الأدب بوصفه جزءاً من التاريخ لا يوصلنا إلى تفسير للظاهرة المذكورة من قبل، لأنه لا صلة كبيرة بين واقع المجتمع وهذه الظاهرة، ولكن النظر إلى الأدب نفسه من خلال مكوناته، وطبيعته، ووظيفته، والوقوف على حيوات الشعراء بالتفصيل توقفنا على تفسير لهذه الظاهرة، وهي أن طبيعة الشعر تدور في فضاء الملذات، والمتع، وأن الشعر يصور الخيالات والشهوات، وما يبعث في النفس النشوة والأنس، إضافة إلى أنه من الممكن أن تكون حياة هؤلاء الشعراء وما يعيشونه من لهو أثراً في ظهور هذا اللون لديهم.
على أن القول بظهور شعر المجون في الشعر لا يكتفى فيه بما جاء في كتاب الأغاني مثلاً مع أنه مصدر كبير من مصادر الشعر، ولا فيما جاء من روايات في كتاب طبقات الشعراء لابن المعتز، أو معجم الأدباء لياقوت، أو غيرها من مصادر الأدب، وإنما يعتمد فيه على الدراسة الشاملة لدواوين الشعراء الذين اشتهروا بهذا الفن من القول، والوقوف على عدد قصائد ذاك من الشعر لديهم، ونسبتها بالنسبة لسائر أشعارهم، ونسبتها بالنسبة لشعر العصر أجمع، بحيث نستطيع أن نحكم حكماً قاطعاً فيما إذا كان هذا الشعر هو الغالب في ذلك العصر أو لم يكن، أو من الموضوعات البارزة.
فوجود شاهد على ظاهرة ما لا يعني أن هذه الظاهرة صحيحة وموجودة من الناحية العلمية خاصة إذا كانت المادة العلمية التي ينحدر منها الشاهد متسعة وطويلة، وإنما لا بد أن يكون الحكم صادراً بعد الاطلاع على المادة أجمع وقياسها وفق المعايير السابقة الذكر، ويكون الشاهد مجرد استشهاد على الظاهرة وحسب.
صحيح أن دراسة أحد هذه المصادر الكبيرة دراسة دقيقة ومستوعبة قد يغني عن دراسة الأدب في تلك الحقبة لأنه يقدم قدراً كبيراً من الأدب، وصورة جيدة له، وتكون بمثابة دراسة العينة الدالة على ما يُسمى بمجتمع الدراسة، ولكنها تظل ذات حاجة إلى الاختبار والقياس لتكون فعلاً دالة أو ليست دالة، فربما يكون للكاتب اتجاهات معينة تجعله يختار نماذج ويغفل نماذج أخرى، أو يختار عدداً من الشعراء ويترك آخرين، أو ربما يكون للكتاب اختصاص معين في الأدب دون سواه ما يجعل قدرتها على تمثيل الأدب في حقبة من الحقب ليس دقيقاً.
وهذه مشكلة في كتابة تاريخ الأدب، فهناك من يعتمد على الشاهد والشاهدين في كتابته، وهي أقدار لا تعجز الباحث الحصول عليها لأي ظاهرة أراد إثباتها، ما يعني أن الاستقصاء في الجمع والموازنة من أهم أدوات كتابة تاريخ الأدب.