د. حسن بن فهد الهويمل
أدركت بقية العمالقة في مصر، وهم أحياء يرزقون، ولم ألتق بأحد منهم، غير أني شغلت بإنتاجهم، وتعقب آثارهم، وأقمت لهم حقولا في مكتبتي، جمعت فيها ما قالوا، وما قيل عنهم، وقدمت عن بعضهم دراسات، خالفت فيها السائد، مما أثار بعض معقًّدي «الأبوية»:- «إنا وجدنا آباءنا..».
ومن لطائف ما قرأت الرد العنيف من الدكتور «زكي مبارك» على الأستاذ «أحمد أمين». والاثنان من عمالقة الأدب، والفكر في مصر، وبينهما تقارب في المشارب الثقافية، وتفاوت في الاهتمامات المعرفية، والثقافية، «أمين» لا يحمل شهادة الدكتوراه، فيما أعلم، و«مبارك» يحمل ثلاث شهادات دكتوراه. وإذا غضب «مبارك»، وما أكثر ما يغضب، شرب حتى الثمالة، ثم أرغى، وأزبد، وكتب:- بقلم الدكاترة. والويل كل الويل لمن أثار غضبه.
كتب «أمين» مقالا تحت عنوان «أدب الروح، وأدب المعدة» نشر في حينه، ثم طبع في كتابه «فيض الخاطر».
فانبرى له «مبارك» بسلسلة مقالات تحت عنوان «جناية أحمد أمين على الأدب العربي» سخر فيه مر السخرية، يرفعه حتى هامة السحب، ثم يهوي به فى مكان سحيق. ومما قال:- «أحمد أمين ليس بكاتب، ولا أديب وإن سوّد الملايين من الصفحات».
ما يغيظ «مبارك» حرمانه من التعليم الجامعي، وهو يحمل ثلاث شهادات دكتوراه، وتمكين «أمين» منه، وهو لا يحمل شهادة الدكتوراه.
«مبارك» عفا الله عنه سكير، أحمق، خرج من الحانة مخموراً فتعثر في الرصيف فسقط فدقت عنقه، فمات. كـ«الأعشى» الذي شرب حتى ثمل، ثم سقط من على جمله، فدقت عنقه، فمات.
الأعشى مات كافراً، خسر الدنيا، والآخرة.
و«مبارك» مات مظلوماً، مسلماً، نسأل الله له الرحمة. ورحمة الله وسعت كل شيء.
لعن رجل خمار عند رسول الله فنهاهم قائلا: «إنه يحب الله ورسوله»، الخطيئة التي ارتكبها «أمين» أثرت المشهد بدراسات نقدية، ممتعة، ومفيدة.
زكي مبارك رحمه الله يتدفق علماً، وسخرية متأصلة عنده،كما هي عند «المازني» و«مارون عبود» الناقد اللبناني الساخر.
هذه الصولات، والجولات فقدت مشاهدنا مثلها، نعم فيها حدة، وإسفاف، ولكنها غزيرة بالمعارف، واللطائف.
لقد ظلم «أمين» نفسه بهذه الجرأة، وظلم «مبارك» نفسه بهذا التحامل، وكسب المشهد خيرا كثيرا.
الاثنان خلفا ثروة أدبية لا يستهان بها، وشكلا مع لداتهما من بقية العمالقة منعطفا مهما في مسيرة الحركة الأدبية والنقدية.
الانفجارات المتعددة، أثّرت على التوهج، وأصبح من الصعب التعملق. من الكتاب العاديين الآن من يفوق بعض العمالقة، ولكن الزمن المليء بالقدرات، والمواهب أقفل باب التعملق..!