في هذا الوقت العصيب على العالم والوطن والذي تلتف فيه القيادة الحكيمة بأبناء هذا الوطن الشامخ تنتشر ظاهرة تشكّل خطراً يهدد أمن هذا الوطن وسلمه الاجتماعي. وأنا على يقين تام أن الوطن ليس غافلاً عما يقوم به أفراد هذه الظاهرة وخلاياها النشطة والنائمة؛ فالوطن يقظ بقيادته ورجاله وأجهزته الأمنية والرقابية. لكني أعتقد أن من مسؤوليتي باحثاً في اللسانيات التطبيقية ومهتماً باللسانيات الجنائية أن أنبه القراء والمغردين إلى الأنماط والسلوكيات اللغوية التي رصدتُها لبعض هذه الحسابات التي تحاول تقويض الأمن وإعطاء صورة نمطية للمغرد السعودي خاصة والمواطن بشكل عام، فقد تخفى على الإنسان العادي وتنطلي عليه حيلهم وأساليبهم التي ظاهرها الرحمة والمواطنة وباطنها العذاب والتخريب!
وأجد لزاماً عليّ أن أشرك القراء معي في دراسة الأنماط اللغوية السيميائية التي تختص بها هذه الحسابات التي يمكن تسميتها بالغربان والصعاليك التويترية التي تعمل بكل جهدها للنبش والتشهير وتقسيم الوطن وأبنائه إلى خائن ومواطن صالح، وتقسيم الشعب إلى فسطاطين متناحرين حسب مقاييس فصّلتها على مزاجها وأهدافها وأجندتها المكشوفة للباحث المتعمق. فهي بكل أسف حوّلت مواقع التواصل الاجتماعي إلى ما شبّهته أدبيات اللسانيات الجنائية بشوارع وأحياء تتكاثر فيها الجريمة وينعدم الأمن ويسود فيها لغة التنمر والبلطجة! وقد جعلت المواقع السعودية -بدلاً من أن يسود فيها الحراك الثقافي والعلمي والأدبي- تنوء بحراك يسوده السب والشتم والاستقطاب؛ وذلك لجعل هذه الصورة هي الصورة التي يتبنّاها المراقب لمواقع التواصل الاجتماعي السعودية إنساناً أو آلةً.
وقد أمضيت فترة طويلة في متابعة بعض هذه الحسابات ومن يتابعها ممن يتماهى معها؛ لمعرفة ما يمكن أن يكون نمطا مشتركاً تُعرف به لغتهم التي تكشف عن خفاياهم وخباياهم. وهو اجتهاد تأملي بمجهود فردي دفعني إليه استخدامهم -وعياً أو لا وعياً- صوراً لرموز الوطن غطاء يتدثرون بها ويتخذونها أقنعة للتلبيس على الآخرين والتدليس عليهم؛ بينما هي في الحقيقة تحمل رسائل وإيحاءات يحسن بنا ألا نغفل عنها، وتسهم في تكريس الصورة النمطية المغلوطة عن السعودي. فمن الأنماط التي تنتشر بين هذه المعرّفات:
- تضع صور خادم الحرمين الشريفين أو ولي العهد حفظهما الله، ويركّزون بشكل خاص على ولي العهد ورؤية 2030 وصور الحرمين الشريفين وصور الجيش السعودي لإعطاء إيحاء بأن هذه الحسابات وما تغرد به من سب وشتم وبلطجة لغوية حسابات وطنية تقدّر رموز الوطن؛ لأجل تنميط صورة المواطن الصالح بأنه ذو لغة بذيئة! وأن النخب السعودية التي تحظى بالمتابعة والشهرة ذات طابع إقصائي احترابي مع كل من يختلف معها! وهذه قطعاً صورة مغلوطة تروّج لها الجهات المعادية للمملكة العربية السعودية. فهي إذن تلتقي مع الجهات المعادية في تحقيق أجندة واحدة لكن بأساليب مختلفة.
- لاحظت أنها تسوّق لحسابين يحملان أسماء من الأسرة المالكة الكريمة، سبق لهما مناوشات مع حسابات مواطنين، وهذا تصرف تنأى بنفسها عنه الأسرة المالكة الكريمة بأفرادها في وطننا منذ أيام المؤسس إلى يوم مليكنا المفدى؛ بل انتشر هاشتاق لأحدهما ينادي فيه المغردون بتعيينه وزيراً! وهذا التصرف منهم ربما يتخذونه لشرعنة تصرفاتهم بأن ما يبدر منهم يحظى بدعم رسمي! وكذلك لاستغلال أو إظهار نماذج للأسرة على أنها في خصومات مع مغردين سعوديين، وأن هذا يعكس صورة الأسرة المالكة، وهذا قطعاً غير صحيح البتة؛ بل هو ما يروّج له المعارضون والمغرضون في الخارج.
- استخدام لغة التهديد والوعيد والسب والشتم للإيحاء بتأكيد وتعزيز الصورة المغلوطة لدى الجهات الخارجية المعادية للمملكة بأن القمع هو لغة الأمن والتعامل مع المواطنين، وهذا قطعاً غير صحيح. كما يسود لغتها الخطاب المتشنج الذي يعتمد على المبالغات والتهويل وافتعال أزمة بين القيادة وشريحة من المواطنين.
- الأخطر في أنماطهم اللغوية أنهم يقومون بعملية وضع الحروف على النقاط وإكمال الفراغات وتفسير المجازات والكنايات والرمزيات، فينشرون تغريدة لمعارض أو مغرض أو سفيه أو صغير عقل أو سنّ وفيها رمزية مغرقة لا يفهمها الكثير ولا يفهمها من لا يعرف الثقافة السعودية ثم يأتون بها لتفسيرها وتنزيلها على مسؤولي الدولة ورموزها!! فهل تصرفهم هذا مكمل لتغريدة المعارض والمغرض وتوظيف لأجندتهما؟! والله إن كثيراً من التغريدات التي يقومون بفك رموزها وحل كلماتها المتقاطعة أكاد لا أفهمها إلا بعد أن أرى ترويجهم وتسويقهم للتغريدة التي تكون مهملة ومشفرة بطريقة لا يفهمها أحيانا غيرهم!! فهل هذا مصادفة وتصرف بريء؟! وهل عملهم هذا استئناف لتغريدة المغرض وبث الحياة فيها وفك رمزيتها وتوضيحها للمتلقين وشرحها لمن لم يفهمها وتبادل دور معه وإكمال لمهمته؟!
- قيامه بترويج التغريدات المسيئة وتفسيرها وتحليلها ولفت النظر إليها على الرغم من وجود طريق رسمي للإبلاغ عنها دون التأجيج وترويج المسيء والتسويق له. فحساباتهم تعتمد الإثارة ويتبعها مئات الآلاف، ومتابعوهم أحياناً أضعاف متابعي من ينبشون تغريداتهم التي عفا عليها الزمن ولم يلتفت إليها غيرهم. كما يقومون في أحيان كثيرة باستنطاق أي تغريدة تنتقد أداء حكومياً على أنها تحمل نفَس المعارضة وأنها رسالة خيانة تصدر من المواطن أو المثقف سعياً إلى تشويه صورة المواطنين والمثقفين والأكاديميين.
- إذا حدث توقيف لمسيء أو إعفاء لصاحب تغريدات بدأت هذه الحسابات تروج أن هذا تتويج لجهودها التي تكللت بالنجاح!! وبدأت تتبادل الشكر مع معرفاتها ومن يتابعها!! فهي تدّعي أنها هي من اكتشف المغرض والمسيء، وفي هذا مخاطر كثيرة منها: الإيحاء بأن الجهات الأمنية والرقابية الرسمية لم تقم بعملها على أكمل وجه؛ بل احتاجت لحسابات وهمية أو مستعارة أو مغرضة لتنبهها إلى ما كانت غافلة عنه، وهذا غير صحيح البتة! كما يرسلون رسائل لمن يجهل طبيعة النظام السعودي وعلاقة القيادة بالشعب بأنهم نظام خفي مواز للأنظمة الرسمية! وهو ما لم تسلكه الدولة عبر تاريخها الطويل، فأعتقد أن هذا يتطلب عقوبة ضدهم.
- سبق لي أن بلّغت عن إحدى الحسابات التي تتابعهم وتصفق لهم وتسلك طريقهم، فجاءني الرد بأنه حساب من الخارج!! وهذا يعني أن هذه الحسابات تستقطب من لا يعرف أساليبهم بطرق ملتوية، فتتدثر بالوطنية من الخارج ولها أجندات ضد الوطن مهما تقنعت بأقنعة براقة. ثم قمت ببلاغ لإدارة تويتر لأن الحساب يمارس السب والشتم، فتم إغلاقه من تويتر وأرسلوا لي يبلغونني بذلك ويشكرونني على التبليغ على منتهكي قوانين تويتر. المشكل الكبير في هذا أن البرامج الحاسوبية تقوم بتصنيف هذه الحسابات على ظاهرها، فتصنفها سيميائياً ولغوياً بأنها تستخدم صوراً وطنية وفي الوقت نفسه تمتهن السب والشتم والبذاءة اللفظية وانتهاك القوانين!! فما الخلاصة التي ستخرج بها هذه البرامج الذكية عن الحسابات السعودية التي تضع صور رموز الوطن وعبارات من مثل: مليكي ووطني وديني خط أحمر؟!! وهل نستبعد فرضية أن تكون هذه المعرفات حسابات استقطاب وتجنيد وتمرير رسائل لجهات معادية بلباس وطني؟! فهي في ظني تستخدم اللغة الوطنية لاستقطاب الساذج وتجنيد العملاء وهي تدار من الخارج وتتلقى الأوامر منه وهذه أساليبها التي تمتهنها، فهل هذه الصفات والتصرفات بريئة؟!
- تقوم هذه الحسابات بالدعوة إلى متابعة الحسابات التي أغلق تويتر معرفاتها القديمة لانتهاكها القوانين! وهذا تعزيز للفكرة السابقة التي تؤكد للتطبيقات الذكية أن الحسابات التي تحمل صور رموز الوطن تنتهك القوانين ثم تغلق ثم تعود مرة أخرى بترويج من حسابات لها نفس الطابع السيميائي ولغة الخطاب! فما الصورة النمطية التي ستخرج بها هذه البرامج؟!
أؤكد في نهاية المطاف أن بعضاً ممن حاربتها هذه الحسابات لا أتفق معها مطلقاً وأرى أنها تستحق التأديب أو الإيقاف أو الإعفاء -إن كانوا مسؤولين- والمساءلة؛ بل إنني أقف ضدها موقفاً أعنف من موقف هذه الحسابات المشبوهة؛ إلا أنني لا أرى عمل هذه الحسابات المشبوهة يخدم المصلحة الوطنية بقدر ما يشوه صورة السعودي المحب لوطنه المدافع عن قيادته وأبناء شعبه والملتزم بأخلاق نبيلة تحرص عليها تعاليم الدين وتعليمات القيادة وتعكسها الدولة -أيدها الله- في تعاملها مع مواطنيها منذ قيامها. أما أعمال هذه المعرفات التي خلطوا فيها عملاً صالحاً وآخر سيئاً فهو من نوع العسل الذي يدسونه في سمومهم! وهو حصان طروادة الذي يحاولون به تقويض قلعة الوطن الأبي! حمى الله وطننا بقيادته ورموزه وشعبه وعزه ورخائه من المغرضين المعادين أيا كانوا.
علاوة على ذلك فأرى أنها من ناحية الفكر والمنهج والتطرف والإقصاء والأحادية في التفكير لا تختلف عما عاناه وطننا أيام تمكّن الصحوة التي استغلت فيها طيبة المجتمع وعاطفته الدينية الجيّاشة في استقطاب متطوعين في الجهات الرسمية مثل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قاموا بحسن نية أو بسوئها بأعمال مخلة بالأنظمة وكَيْل التهم والتجسس وتقسيم الناس إلى ملتزم ومنحرف مما ألحق صورة نمطية سيئة بالصحوة جعلت أجهزة الدولة تقوم بتهذيبهم! واضطرت الجهات الرسمية إلى تقليم أظفارهم، ولا زلنا نعاني تبعات تلك الفترة ونحاول علاجها وإصلاح ما أفسدته من خلل دفع الوطن ثمنه! فعملهم اليوم مشابه لعمل الصحوة بالأمس لكن في اتجاه مختلف، وهذه المعرّفات تنصب محاكم التفتيش التي كانت ينصبها من شوّه صورة المملكة ممن التحق فيما بعد بالجماعات الإرهابية والمتطرفة. فهل يمكن أن نعتبر ونتدارك وضع من يماثل تلك الفترة منهجاً وفكراً وتطرفاً وبذاءةَ لغةٍ وإن كان باتجاه مختلف؟!
إن تأثير هذه المعرّفات وما تمارسه من تشكيل عصابات رقمية يخدم أجندة المعادين للوطن في إعطاء صورة سلبية عن الثقافة السعودية بأنها ثقافة هشة سطحية لا همّ لها إلا الاحتراب واستعداء السلطة على بعضها والتصنيفات الفكرية التي تظهر مرة بلباس ديني ومرة أخرى بلباس سياسي!! كما أنها تعزّز فكرة يرددها الأعداء وهي أن القمع هو لغة التفاهم في المملكة العربية السعودية؛ وهذه الفكرة هي التي لا يمكن أن يصدقها كل من عاش في هذا الوطن الذي ميّزه الله بقيادة وأسرة مالكة لم تعرف التاريخ الدموي الذي عرفته حكومات مجاورة عربية وإسلامية. والله أقولها مقتنعاً بأن لغة التعامل للقيادة التي عرفناها مع الشعب لغة يسودها الحب والاحترام والحكمة والوقار والتغاضي؛ وهي على النقيض تماماً مما تروّج له هذه الحسابات المشبوهة.
وختاماً أرجو من كل من يضع صور رموز الوطن كصور خادم الحرمين الشريفين وولي عهده -حفظهما الله- أو صور الرؤية المباركة أو صور الجيش السعودي الشجاع أو صور الحرمين الشريفين والعلَم السعودي أن يحترم هذه الرموز وينتقي لغته أو يستخدم صوراً أخرى تناسب لغته ومستواه.
** **
- د. صالح بن فهد العصيمي