«وما النصر إلا وهم من أوهام الفلاسفة والمجانين»
وليم فوكنر
إذا كان بروست قد بعث زمنه الضائع بشكل شخصي، وجويس بعث مدينة دبلن إلى العالم، فإن وليم فوكنر بعث الجنوب الأمريكي بكامله إلى العالم في سيمفونية الصخب والعنف. يقول فوكنر «كتبت الجزء الخاص ببنجي أول الأمر، ولم أجده جيداً بما يكفي لذا كتبت الجزء الخاص بكونتن ولم يكن هو الآخر ينطوى على ما يكفي من الجودة. جعلت جاسين يتكفل بالأمر، ولكن لم يكن هو الآخر جيداً بما يكفي، وفي خاتمة الأمر جعلت فوكنر ذاته ينهي المهمة لكنه لم ينجزها هو أيضاً بصورة مقبولة» (16).
ويتساءل الناقد جيسي ماتز 2016 بقوله «ما الذي يضعه الروائيون الحداثيون -أمام أنظارنا لجعل العالم قريباً منا؟ - وبفعلهم هذا يكشفون كم يمكن لكتابتهم أن تكون مشبعة بالحيوية إذا كان الواقع قصة نشكلها تشكيلاً فينبغي للرواية أن تكون مفتاحاً نلج به ذلك الواقع» (17)
المدهش في هذه الرواية هو قدرة الروائي فوكنر عن التعبير عن مشاعر بنجي الصغير والمعتوه ليعبر عن مأساة هذه الأسرة.
العزف الأخير لسيمفونية الصخب والعنف
تعرفنا في الحلقتين السابقتين على عزف كل من الأخوين بنجي المعتوه والحزين، وعزف كوينتن الطالب في جامعة هارفرد، وفي هذه الحلقة الأخيرة نستمع إلى عزف كل من الأخ الثالث جاسن والمؤلف فوكنر.
جاسن 6 أبريل (نيسان) 1928
يمثل جاسن الأخ الثالث بشخصيته الشراسة والأنانية، يسعى في حياته إلى النجاح وكسب المال بمختلف الطرق والأساليب، قام بالسطو على مال أمه التي تثق به وسرقة مال أخته كاندس التي ترسله شهرياً إلى ابنتها كونتن خلال سبعة عشر عاماً،
وهو يراقب ابنة أخته ويلاحقها من أجل أمه كما يقول:
«.... قالت أمي: «لست أعنيك أنت. إنك الوحيد من دونهم كلهم الذي لا أجد فيه غضاضة علي أو مسبة لي. فقلت طبعا: طبعاً لم يتح لي الوقت لأكون ذلك، لم يتح لي الوقت للذهاب إلى هارفرد ككونتن أو للشرب حتى يطمرني الموت كأبي.
كان علي أن أشتغل، ولكن بالطبع إن كنت تبغين مني أن أتعقبها (الابنة كونتين) وأرى ما الذي تفعله، فما علي إلا أن أتخلى عن المخزن وأجد وظيفة أعمل فيها ليلاً، وعندها أستطيع أن أرقبها أثناء النهار ولك أن تستخدمي بن في دورة الليل» (18)
ويجسد جاسن مأساة عائلة آل كمبسون ومأساته بقوله «ذهبت إلى الشارع، ولكني لم أرهما، فهذا أنا في وسط الشارع حاسر الرأس، أبدو أشبه بالمجانين أيضاً كمن يقول لنفسه طبعاً، أحدهم مجنون والثاني انتحر غرقاً والثالثة قذف بها زوجها إلى الشارع، فلم لا يكون البقية مجانين كذلك.
فكنت أراهم طيلة الوقت يرقبونني كالصقر، مترقبين الساعة التي يقول فيها أحدهم: لست أدهش لهذا، كنت أتوقعه طيلة هذا الوقت فالعائلة كلها مجانين، تبيع الأرض لإرساله إلى هارفرد وتدفع الضرائب لمساندة جامعة الولاية سنة بعد سنة وهي جامعة لم أرها إلا مرتين في مباريات «البيسبول» ولا تسمح لأحد بالتلفظ باسم ابنتها في المنزل إلى أن جعل أبي بعد ذلك يرفض حتى النزول إلى المدينة وهو ما انفك جالساً هناك طوال سحابة يومه يعاقر قاروراته كنت أرى حاشية قميص ثوبه وساقيه العاريتين وأسمع القارورة تدقدق الكأس إلى أن جعل تي بي في النهاية يصب له ما يريد، وهي تقول إنك لا تحترم ذكرى المرحوم أبيك فأقول ولم لا فإنها في حرز حريز وستبقى قائمة لكنه إن كنت مجنوناً أنا أيضاً، فالله يعلم ما الذي سأفعله بشأن ذلك فمجرد النظر إلى الماء يقلب معدتي قلباً وقد أجرع البنزين ولا أجرع كاساً من الويسكي» (19)
الروائي فوكنر، يحكي بتاريخ 8 أبريل (نيسان) 1928 ويتحدث وليم فوكنر في الفصل الأخير من الرواية ليكمل سرد الحكاية ليقفل مأساة آل كمبسون، يركز المؤلف على بعض الأحداث المهمة مثل دور الخادمة دلزي فيصفها كربة البيت والمسؤولة الأولى والمهتمة بالجميع خصوصاً الصغار منهم، يصفها في أول الفصل:
«كانت امرأة ضخمة فيما مضى ولكن هيكلها الآن ينتصب، يكسوها إهاب واسع غير محشو يشتد ثانية عند بطن يشارف على الخبن، كأن العضل ولفائف اللحم كانت يوما ما شجاعة أو جلدا أتت عليه الأيام والسنون فلم يبق إلا الهيكل العظمي الذي لا يقهر منتصباً كخرائب أو بعض المعالم فوق الأحشاء الوسنانه الصماء، ويعلو جميع ذلك وجه متداع يوحي للرائي أن عظامه خارج اللحم، يرتفع إزاء النهار الهتون بتعبير في القسمات قدري يماثل في الوقت نفسه خيبة الطفل، إلى أن استدارت ودخلت البيت ثانية وأغلقت الباب» (20)
«وراحت الساعة تدق، تك تك، تك تك، في وقار وعمق، كأن ذلك نبض البيت المتداعي نفسه.. فأخذ بنجي يئن....» (21)
«لم تنبس دلزي بشيء، ولم ترتعش وجهها والدموع تجري في مجاريها الهابطة الملتوية مرفوعة الرأس دون أن تحاول مسح دموعها، فقال فروني «لماذا لا تكفين عن ذلك يا أماه، وهؤلاء الناس يرقبوننا؟ وبعد لحظات سنمر بالقوم البيض».
قالت دلزي «لقد رأيت البداية والنهاية. لا عليك».
- أية بداية وأية نهاية؟
- قالت دلزي «لا عليك، لقد رأيت البداية، وها أنا الآن أرى النهاية».
يشبه المترجم الروائي جبرا إبراهيم جبرا قول دلزي «لقد رأيت البداية والنهاية «بكلمات الكورس في المآسي الإغريقية» (22)
تأثير فوكنر على الروائيين الآخرين..
أسلوب وتقنيات ولغة وليم فوكنر تأثر بها الكثير من الروائيين في العالم، وفي طليعتهم ماريو فارجاس يوسا، وجارثيا ماركيث وتوني موريسون.
يقول عنه ماريو فارجايس يوسا «تأثير فوكنر في أعمالي كبير جداً وضعه الكثير من كتاب العالم في مصاف كبار القرن العشرين، فهو اخترع نظاماً عالمياً للرواية، وابتكر حبكة للقصة وأدخل إلى النثر الإثارة والترقب، تشبه عوالم فوكنر عوالم أمريكا اللاتينية، مجتمع ريفي فيه الكثير من العناصر الإقطاعية والاثنية وجعل هذا التقارب الكثير منا يتأثرون به» (23)
واهتمت فيه الروائية الأمريكية توني موريسون الحائزة على نوبل 1993 وكتبت أطروحتها للدكتوراه عن «الانتحار في روايات وليم فوكنر وفرجينيا وولف» من جامعة هوارد، وانعكس تأثيره على أعمالها الروائية خصوصاً روايتي (الجاز) و(الفردوس). (24)
كما تأثر به من الروائيون العرب غسان كنفاني في روايته (ما تبقى لكم)، والروائي جبرا إبراهيم جبرا في روايته (السفينة) من حيث الشكل والتقنية،كما تأثر به غيرهما من الروائيين العرب.
... ... ...
المراجع:
1 - جبرا إبراهيم جبرا، الصخب والعنف، دار المدى، 2017، المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد.
2 - جيمس ماتز، تطور الرواية الحديثة، ترجمة لطفية الدليمي، 2016 المدى للإعلام والثقافة والفنون، بغداد.
3 - حازم خالد، وليم فوكنر وتفاصيل الحياة، رابط: https://middle-east-online.com/
4 - سعيد الكفراوي، وليم فوكنر صوت الصخب والعنف، جريدة الرياض، الرابط:
www.alriyadh.com/culture.thurcul
5 - طارق رضوان، تيار الوعي عند غسان كنفاني ووليم فوكنر، رابط:
https://www.facebook.com/alnafaes/posts/920584858102723
6 - موسوعة الوكيبيديا، رابط: https://en.wikipedia.org/wiki/William_Faulknerl,s,um
7 - الصخب والعنف- المعرفة، رابط:
https://www.marefa.org/
** **
- ناصر محمد العديلي