كلَّما ثارت إحدى الحروب أو ألمّت بالعالم إحدى الأزمات أو الكوارث تردد مصطلح «أثرياء الحرب» على الألسنة، باعتباره معبِّراً عن استغلال البعض لحاجات الأغلبية الساحقة من الناس.
وإذا كان ذلك ينطبق على التجارة التقليدية في الزمن القديم، عبر تلاعب التجار بمعادلات العرض والطلب ومحاولة اصطناع شح في المعروض لمفاقمة الطلب مما يؤدي لارتفاع غير عادي في الأسعار يكون مصدراً للثراء السريع. فإن طبيعة التعقيد في الاقتصاد المعاصر تجعل الإثراء على حساب الأزمات على قدر كبير من التنوع، والمخاتلة أحياناً. ولعل رجل الأعمال الأمريكي الشهير «جيتي»، أحد كبار رجال النفط في العالم خلال عقدي الأربعينات والخمسينات، كان واحداً من أبرز أثرياء الحروب خلال الحرب العالمية الثانية. وقد تعدت نشاطاته حدود بلده، حيث استثمر حاجة ألمانيا النازية إلى النفط وباعها النفط المكسيكي، وأثري من خلال عمليات مشابهة.
وإذا كانت الحروب تولّد مزيجاً من شح الإنتاج وخطورة وسائل الإمداد، فإن مما يضاعف الأزمة عادةً هو حالة الخوف والتوجس والهلع التي تملأ نفوس الناس وتطبع تصرفاتهم وردود أفعالهم.
ولا تختلف الأوبئة والكوارث الطبيعية الكبرى عن الحروب في خلق المناخ الأمثل لاستئناف تجار الحروب والأزمات لسلوكهم التقليدي واستثمار الفرص السانحة.
تبدو أزمة فيروس «كورونا» الحالية واحدة من الكوارث الصامتة، فلا هدير للطائرات والمدافع ولا أصوات انفجارات، ولا حتى أشلاء ودماء، وبدلاً من ذلك فإن العالم يعيش حالة من الإنزواء الشامل والسكون المفرط والخضوع غير المشروط أمام عدوٍ خفيّ ليس الأكثر ضراوةً وإثخاناً من أوبئةٍ سبقته قديماً وحديثاً، لكنه حتماً الأكثر تأثيراً وإحراجاً للعالم المعاصر على الأصعدة كافة.
تفاوتت في البداية مواقف الدول وإجراءاتها، حزماً وتراخياً لمواجهة هذا الوباء، إلا أنها توحدت في النهاية على ضرورة الجدية والحزم وفرض سياسات العزل الاجتماعي والحجر الصحي والحظر الشامل أحياناً. لكن ما تفاوتت به الدول والمجتمعات حقاً هو المعطيات الموضوعية للأنظمة السياسية والاقتصادية، ففي حين استطاعت الأنظمة الرعائية والشمولية التعامل بسرعة وحزم وسخاء وسيطرة شبه تامة، فإن دول الليبرالية الرأسمالية وجدت نفسها أمام خيارات أقل عوناً على السيطرة وبالتالي أصبحت أكثر انكشافاً أمام الوباء وحازت أكبر نصيب من ضحاياه.
ولقد انسحب هذا التفاوت على التعاطي المجتمعي حيال الأزمة برمتها، ففي حين التزمت مجتمعات الدول الرعائية بكثير من السلمية والتسليم في تأمين حاجاتها وأمنها، فإن المجتمعات الليبرو رأسمالية عاش بعضها حالات من الفوضي، عبر استباحة أسواق التموينات أو التناحر على أصناف من السلع بصورة غير حضارية، كما حدث في بعض المدن الأمريكية. ناهيك عن الإقبال المفرط على اقتناء السلاح الفردي، حيث اختفى المعروض من الأسلحة خلال فترة قصيرة من دكاكين السلاح المرخصة. على أن ظاهرة الإتفاق المشتركة في كلا المعسكرين تمثّلت في استفادة أثرياء الوباء من حالة التوجس والهلع لدى المستهلكين واختلال معادلات العرض والطلب بصورة متزايدة. والواقع أن هؤلاء المستفيدين ليسوا بالضرورة أكثرية، لكن حصتهم من الكعكة هي الأكبر وقدرتهم على المناورة والصمود هي الأقوي.
وإذا كان ذلك من الظواهر المعتادة في مثل هذه الأزمات، فإن رصدها وكبح تغوّلها يعتبر أكثر إلحاحاً في الدول التي تجمع بين نهج الحرية الاقتصادية وبرامج الرعاية الحكومية للمنظومة المجتمعية.
وفيما يتعلق بالشأن المحلي فقد صدرت العديد من المبادرات الحكومية لتخفيف آثار الأزمة على الأنشطة الاقتصادية المتضررة وعلى المواطنين مستهلكين وعاملين في القطاع الخاص. جاء ذلك من خلال حسٍّ سياسي رفيع وبقرارات عليا استباقية أخذت في اعتبارها مجمل المنظومة الاقتصادية والمجتمعية المحلية عبر منظور وطني وإنساني وبعيداً عن حسابات الربح والخسارة. وحتى تؤتي هذه الرؤية السياسية نتائجها المأمولة، فإن دور التكنوقراط الحكومي سيكون حاسماً في التطبيق، حتى تكون حصة المواطن هي الأكبر والأدوم في حصيلة التطبيق.
من الواضح تماماً أن المواطن المستهلك هو الحلقة الأضعف في معمعة الأزمة، بينما لدى المواطن التاجر والوسيط التجاري غير المواطن، وما بينهما من هذا وذاك، الكثير من الآليات والذرائع والخبرات التي تجعلهم قد يستأثرون بثمار الرعاية ويجيّرونها لتعزيز وتعظيم مكاسبهم السوقية.
في دراسة حديثة لمجموعة أكسفورد للأعمال(OXFORD BUSINESS GROUP)، أبرزت تعاظم عائدات شركات الأسواق المركزية في المملكة، حيث نقلت عن لسان ممثلي اثنتين من هذه الشركات أن مبيعاتهم قد تضاعفت 200 % على الأقل خلال عشرة أيام من احتدام الأزمة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما يرافق حمّى الشراء عادة من ارتفاع في الأسعار، وكذلك الفوائد الأخرى من برنامج الدعم الحكومي المستجد وعلى رأسها تكفّل الحكومة بدفع رواتب العاملين السعوديين لدى هذه الشركات، أدركنا سهولة انضواء هؤلاء التجار في زمرة «أثرياء الوباء». لذا فإن نجاح برامج الرعاية الحكومية مرهونة بالأداء المتميز والمثابر لفريق التكنوقراط وأجهزتهم التنفيذية.
ختاماً، فإن حصيلة النجاح النهائية للتعامل مع كل جوانب أزمة كورونا على مستوى العالم لن تتبين إلا بعد زوالها، وستتضح حينها جوانب القوة والهشاشة الكامنة عميقاً في مختلف الأنظمة والدول.وقد يتضح في نهاية المطاف أن «أثرياء الوباء» ليسوا مجرد حفنة من التجار هنا وهناك وإنما هم عمالقة السياسة والهيمنة الإستراتيجية الجدد في العالم، بداية العقد الثالث من هذا القرن.
** **
- عبدالرحمن الصالح