اشرأبت نفس الفتى للحج من أول ما وجب عليه، فقد كانت خطب شيخه محمد بن عثيمين رحمه الله تخاطب مشاعره كل موسم، وتستثير عاطفته، وتستحث همته، وتحذره من التسويف، ومواعظ أخرى تتوالى على سمعه، من هنا وهنا، كلما أقبل الموسم، ويبلغ بعضها المدى في التشنيع على من أخر الحج، فيقع الفتى ذو الخمس عشرة سنة في خوف وحيرة، حيث لم تتيسر الطريق السهلة بعد، ولم يجرؤ على الالتحاق برفقة لا يعرفهم، وهو في تلك السن.
لم يطل انتظاره، ففي سنته الأولى في مدرسته الثانوية، أُعلن قبيل موسم الحج عن حملة تنطلق من ثانويتي عنيزة آنذاك، ثانوية عنيزة العامة، وثانوية الشيخ ابن سعدي، فأدرك الفتى أن مراده وشيكٌ تحققُه، وغايته قاب قوسين، فكان أول ما قابل به والده بعد عودته من المدرسة يومه ذاك أن استأذنه، فابتسم الوالد وأذن له، أما والدته عليها رحمة الله، فقد أذنت أيضًا، لكنها اتبعت الإذن الدعوات بعد الدعوات، وارتسم الخوف على محياها، وبدَأَت رحلةً مع القلق، فقد كان وحيدها الذي تخشى عليه من هبوب الريح.
اجتمع من أكدوا الموافقة اجتماعًا حددوا فيه موعد الانطلاق وإجراءاته، ورسم الرحلة، وكان 500 ريال لكل طالب، كما ذكروا الطلاب بأهمية إحضار بطاقة الأحوال المدنية، وكان الفتى إذ ذاك لم يستصدرها بعد، فسارع في استصدارها، وكان الانطلاق يوم الثلاثاء 6 من ذي الحجة عام 1413هـ. على سيارتي (جمس) إحداهما صنعت 1977م والأخرى صنعت 1982م.
حمل الفتى متاعه، وأهم ما فطن له النقود المعدنية، لكي يتمكن من الاتصال بوالديه عبر (هاتف العملة)، فهو الوسيلة المتاحة آنذاك.
ولئن كان الحج غاية الفتى لأداء فريضة الله عليه، فله فيه غاية أخرى، وهي رؤية بيت الله، التي كان عاجزًا عنها، ولم يحظ بها في عمره من قبلُ إلا مرتين، إحداهما في صغره، حيث لا يكاد يذكر منها إلا اليسر، في حين كان قرناؤه يترددون، ويصفون في درس (الإنشاء) بعد كل إجازة ما كان يتمنى أن يتحقق له.
وما إن أنهى الجمع شعائر العمرة، وقصروا رؤوسهم، ولبسوا ثيابهم، واتجهوا نحو مخيمهم في منى، حتى شعر الفتى بشيء من الإعياء والتعب، فظنه من آثار السفر، حتى إذا ارتفع الضحى، أخذت حرارته بالارتفاع شيئًا يسيرًا، فانتحى عن الجماعة في زاوية من زوايا الخيمة، واضطجع على جنبه، متوسدًا فراشه المطوي، وأخذه مع ارتفاع الحرارة ألم في حلقه، من التهاب اللوزتين.
كان أستاذُه مساعد السلمان أحدَ الأساتذة المشرفين على الحملة، وكان حينئذ شابًّا في أوائل سنوات خدمته، وكان كما عهدوه في تدريسه في غاية السمت واللطف، وكذا هو في إشرافه على الحملة مع زميله الأستاذ فهد الشبل، وإضافة إلى ذلك الخلق الكريم، فقد كان معنيًّا بالطلاب من حيث حرصه على تلمس حاجاتهم الضرورية وغير الضرورية، مع قيامه بواجبه التوعوي، فهو المتخصص في التربية الإسلامية، المتقن لأحكام الحج، القدوة في مناسكه.
لما رأى الفتى على هذه الحال، التفت إليه بالعناية، واهتم لأمره، وجعل يسأله عن حاله ساعة بساعة، ثم اجتهد في علاجه بما تيسر له، بأن صنع له ما يتغرغر به من ماء وليمون وملح، وانتحى به خارج الخيمة، وجعل يناوله فيتناول... وظل واقفًا بجواره، كأنه أحد والديه، غير مُزورٍّ عنه، ولا مستكره منظره.. لقد بقيت هذه الصورة في نفس الفتى، كلما تذكرها دعا لأستاذه بخير ما يدعو.
غير أن الحال لم تتحسن، فرأى الأستاذ أن يدعى بسيارة الإسعاف، وما هي إلا دقائق معدودة حتى نقل الفتى، وصاحَبَه إلى المستشفى المشرف الآخر أ. فهد الشبل.
كانت الرعاية الصحية للحجاج من ذلك اليوم وقبله، وحتى اليوم مضرب المثل، وما تزيد مع الإيام إلا مزيد تطور، فلقد وجد الفتى هناك عناية واهتمامًا لم يحتسبه، وكأن الطواقم تستبق لعلاجه استباقًا، هذا وحالته يسيرة، فكيف بالطارئ الحَرِج!
عاد الفتى إلى المخيم بعد بضع ساعات، وقد تحسن كثيرًا، وظل أستاذه مساعد حفيًّا به، معنيًّا بأمره.
تمر السنوات تلو السنوات، ولم يأت ذكر للأستاذ إلا ارتسم فضله في عين الطالب، وإن لم يجمعهما التخصص العلمي، فقد عني الطالب بأخبار أستاذه العلمية، فكان لا يترك كتابًا ظهر له إلا اطلع عليه، ولا مقالة إلا قرأها.
قد التفت الأستاذ الشيخ مساعد بن عبد الله بن سليمان السلمان، إلى التأليف، فأخرج كتبًا نافعة، سهلة ميسرة، يتوخى مواطن الفائدة ليقربها، في أسلوب ينأى عن التعقيد والتسطيح، ويتجنب التكبر والتعالم، تآليف تشم منها صدق النية وسلامة القصد، وحب النفع، تآليف لم تكتب ليُنال بها درجة علمية، أو ترقية وظيفية، أو مكسب مادي، وإنما لتبقى علمًا باقيًا ينتفع به.
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم