حسن اليمني
الملمح المهذب في السلوك الذي يظهر في العالم الغربي ويُخْجَلْ منه في العالم العربي هل يعبر عن غباء وذكاء؟ وهل الغباء والذكاء في التعامل والسلوك عنوان تخلف وتحضر؟
ينشأ المولود في الغرب بأخلاق وأدب في التعامل والتخاطب مع الآخرين كباراً وصغاراً بشكلٍ يدعو للضحك والإعجاب لدى العربي، وينشأ المولود في مجتمعاتنا العربية في التعامل والتخاطب بأخلاق وأدب بشكل يدعو للضحك والدهشة لدى الغربي، يدخل الطفل الغربي لمحل بيع الفطيرة فيقف في الطابور دون تذمر وحين يصل للبائع: مرحباً سيدي، لو سمحت، أفضل ربع فطيرة بالخضار، فيجيبه البائع: بالتأكيد، بدولارين وعشرين سنتاً، فيرد الطفل: جيد، هذا هو المبلغ سيدي، ويدخل الطفل العربي لمحل بيع الفطيرة فيقف في الطابور وهو يتذمر وحين يصل للبائع: بكم الفطيرة الصغيرة بالخضار؟.. البائع يرد: بخمسة عشر ريالاً، خلاص عطني وحدة بس بسرعة، الأمر كذلك لا يختلف حتى مع الكبار ذكوراً وإناثاً.
لا زلت أتذكر حين كنت أتعلم اللغة الإنجليزية في معهد (E L S) في ضاحية (دس بلينز) قرب (Chicago) وفي درس المحادثة كيف أن إجابة المستفسر عن مكان لا تعلمه يكون بطريقة (نعم ولكن) بمعنى أن لا تكون الإجابة بالنفي بشكل مباشر وإنما بطريقة ملطفة توحي بالإيجاب، لطفاً في السلوك والتعامل خفي لكن معياره ووزنه في النفس كبير وجميل.. الأمر نفسه يحدث حتى في مجتمعاتنا العربية لكن بطريقة مباشرة والفرق بين الأسلوبين في الإجابة على ذات السؤال تكمن في تقديم الإيحاء الإيجابي ابتداء بدل الإيحاء السلبي رغم أننا في الغالب نجتهد في المساعدة والبحث للسائل عن خيارات أو دلائل مساعدة، لكن تقديم (نعم) بدل من (لا) يعطي انطباع حسن لدى الآخر، هذا الأمر جعلني أتأمل أخلاقية وأدب الحديث والتعامل والسلوك بين الناس في الغرب، فوجدت أننا نفتقد لكثير من اللطف دون قصد أو تعمد وإنما نستهدف المباشرة واختصار الوقت، حالة من الاستعجال والركض تلازمنا باستمرار في أخلاقياتنا وتعاملنا دون مبرر حقيقي، ليس لضيق الوقت أو كثرة الانشغال، لكن ربما درء للحرج وكأننا نخجل أو لا نرغب في الدخول في كشف حقيقتنا، رغم أننا في الحقيقة أرق أثراً في الخلق والأدب من كثير في الأمم الأخرى.
أتذكر أيضاً أن أستاذتنا في اللغة الإنجليزية أخذتنا ذات مرة في رحلة من ولاية (اللينوي) إلى (نورث داكوتا) مروراً بولايتي (ويسكانسن ومنسوتا) وفي إحدى القرى فاجأتنا السيدة (ديبي) بأنها ستأخذنا لزيارة والديها، أخذتنا إلى مزرعة نائية وهي تحدثنا أن لها خمس سنوات لم ترهم، توقعت أننا حين نصل سنشهد لقاءً مؤثراً وثرياً بالمعاني والسمو، لكني تفاجأت بأن الأمر لا يعدو كونه زيارة معارف خالية من الشوق أو العتب أو حتى السؤال.. شيء مربك للعاطفة العربية؛ وحين تقارن أخلاق وأدب التعامل والسلوك في الغرب مع عاطفة التواصل الأسري ربما يصدم كثير منّا نحن العرب بتبلد الرابط الأسري فلا ترحيب مبالغ فيه ولا تكلف في الاستقبال ولا إظهار مشاعر اللقاء، الربط بين الصورتين متعب حقاً.
اعتماد إظهار الاستقلال والتحرر من الرابط العاطفي والتعالي على المشاعر الإنسانية مع لطافة الأدب والخلق في التخاطب والتعامل مع الآخرين يجعلك تبحث عن سر منطقي يساعدك للوصول لفهم هذه الطبيعة المتناقضة، الواقع أن مادية الحياة التي طغت على روحانيتها أخرجت الإنسان من كثير من جياشة الإنساني ليصبح لطف الأدب والخلق في التخاطب والتعامل مع الآخرين عمل تكلفي بمساحة المجتمع ككل ويظهر حقيقة ذلك حين تدخل بعقلك في عمق هذا الإنسان المادي لتجده شكلاً جميلاً ومضمون فقير، الصورة الظاهرة بشكل عام مبهرة لكن الحقيقة في المضمون جافة وتعيسة بعكس الصورة الظاهرة بشكل عام في المجتمعات العربية التي تبدو في سطحها الشكلي همجية لا مبالية في حين تختزن الحقيقة في مضمونها بحر غزير من المشاعر العاطفية الروحية الحيّة.
إن هذا كله لا يعني التعميم ولا يعني قاعدة أو حقيقة مطلقة، ففي كل مجتمع وأمة التمايز والاختلاف، وإنما أريد أن أصل إلى حقيقة أن الاختلاف بين المظهر والمخبر كلما تباعد كلما تشوهت صورة الإنسانية في الإنسان وكلما تقاربت واندمجت ككل في كل تجلّت صورة الإنسان بأجمل ما خلقه الله سبحانه وتعالى عليه دون فرق بين جين وجين مهما كان نسله وفصله ولونه وأصله، الإنسان بعقله يستطيع أن يجد إنسانيته.