د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
** انتقلا إلى جوار الله بعدما مثَّلا حضورًا ثقافيًّا متصدرًا، ولم يحيدا عنه إلى ما دونه فخطَبا العقل وخاطباه، واستندا إلى مرجعياتٍ نقليةٍ وبراهين عقليةٍ فاختلفا وائتلفا، وابتدآ يساريَين ثم اختطَّ كلٌ منهما مسارًا خاصًا به، وصار لهما مريدوهما المؤمنون بمقدرتهما المتخطية أُطر العاديةِ في الطرح والحوار، وما يزالان مؤثرَين، والظنُّ أنهما سيظلان.
** نصر أبو زيد 1943 - 2010م ومحمد عِمارة 1931 - 2020م مفكران مصريَّان معاصران دارا حول «العقل» فصنّمه الأولُ وحجَّمه الثاني، والناتجُ افتراقٌ في التحليل وفراقٌ في الناتج، وقلقٌ للأول وطمأنينة للثاني، ولا يعني هذا أفضليةً لأحدهما في مساحة الفكر المنطلق من حيث آلياتُه ومعطياتُه.
** كان بإمكان «أبي زيد» أن يرأفَ بنفسه والمشفقين عليه فلا يجنح إلى بشرية المقدس؛ فالجميعُ يعي قيمة العقل وإحاطته بما دونه لا ما فوقه كما اقتنع «عمارة»، وحين انفصلت رؤيتُهما للعقل بصورة جذرية فقد تجلّى فرق المبالغةِ عن الإبلاغ، والتشكيكِ عن الإيمان، والتيه عن الوصول.
** لكليهما الدُّعاء لدى رب رحيم، ولنا أن نتعانق مع من يمنحنا مساحةً للتصديق لا التصفيق، وإذ اعتدنا تقديم المثير على التأثير فلا عذر إن لم ننتقل من مُدرَّج الانبهار المليء بالأكف الملتهبة إلى مجلس التأملِ المفضي إلى التأني، ومن اليسير استنساخُ الأسئلة لكنَّ من العسير صنعَ الأجوبة.
** هما مثالان على ما يصنعُه الوهمُ بالشخوص واجتزاءُ النصوص، وما يلحقهما من حيرةٍ لا تستقر حين لا يحتوينا اتجاهٌ نعرف معه التيار كما الإبحار والأنواء كما الميناء والمسافة مثل الزمن؛ فلا نركضُ دون رؤيةٍ ولا نحكم من غير رويَّة، والحق أن مركب الدكتور محمد عِمارة أكثرُ هدوءًا، ومركب الدكتور نصر أبو زيد أشدُّ قلقًا، والأهمُّ في رحلتيهما حجم الإضاءة الروحية والنفسية، ومن وجهة نظرٍ شخصية فلا مقارنة بينهما؛ لا في الإطار ولا في المدار، ومَن يقرأُهما يدرك اللغة وينأى عن الإلغاء.
** لعلَّ ما سبق كافٍ لقراءة متغيرات الرحلة والمرحلة لدى ثلل المنعتقين من التقليد والمرجعية إذ يجدون عقولهم منتهَبةً لعقولهم، وحين يأسر العقلُ عقلَه فإنه سيقف وسط الموج الصاخب حيث لا مكان يُظِلَ ولا زمان يدُلّ ولا أبجدية تستطيع توصيف معنى الحصار المادي والاحتضار المعنوي.
** لم يبدأ محمد عمارة مشروعَه الفكري إسلاميًا غير أنه انتهى كذلك فواءم العقل والنقل بصريح الأول وصحيح الثاني مثلما صنع شيخ الإسلام ابنُ تيمية، وصمد مشروعُه المتوازنُ على مدى عقود واكتسب حضورًا خارجيًا وحبورًا ذاتيًا، في حين واصل نصر أبو زيد تفسيره العقلي واضعًا النصَّ المقدس في مشرحة الرأي البشري فتوقف في محطته الظنيّة، ومن لا يرى النقل سيهزمه عقلُه، ومن يهمل العقل سيُدينه نقلُه، والجمعُ بينهما وعيٌ بالأسباب وإيمانٌ بالمسبِّب.
** النقل ضوءُ العقل.