د. عيد بن مسعود الجهني
القرن المنصرم شهد أحداثاً جساماً منها الحرب الكونية الأولى 1914 - 1918قتل فيها (10) ملايين من البشر وامتدت بدمويتها إلى معظم دول العالم وقاراته، وتفككت الإمبراطورية العثمانية التي فازت بلقب (الرجل المريض)، وما أن شم العالم رائحة السلام حتى اندلعت أزمة الكساد العالمي عام 1929 - 1933 لتخرج من رحمها الحرب الكونية الثانية (1939- 1945) ليبلغ عدد الذين فقدوا حياتهم في تلك الحرب مابين (50 و60) مليون إنسان.
وإذا كانت تلك الحربين أمثلة على ما يصنعه الإنسان لأخيه الإنسان من قتل وتشريد وتدمير لمقدراته في حروب شرسة يغذيها تصاعد الصراعات العسكرية خاصة بين القوى الكبرى في ذلك الزمان فإنها (تلك الدول الكبرى) تعلمت من العبر والدروس وصدرت خلافاتها وتسابق نفوذها إلى دول العالم الثالث مثيرة النزاعات والصراعات والحروب مختارة وكلاء لها تارة وإعلان الحرب تارة أخرى طمعاً في (الثروة) كما نراه اليوم متجسداً على أرض بلاد الشام والعراق وليبيا واليمن.
وبدون شك فإن الصراعات العسكرية في القرن المنصرم كانت هي العنوان الرئيس لذلك القرن، لكن الأوبئة كانت هي الأخرى تفتك بالبشر كالإنفلونزا الإسبانية قبل مئة عام والملاريا والجدري والطاعون في غياب أدوية لتلك الأمراض الفتاكة في ذلك التاريخ من عمر البشرية.
في هذا القرن الواحد والعشرين لم يشهد بعد حرباً كونية ثالثة، لكن حروب تقاسم النفوذ التي استبدلتها الدول التي فازت في الحرب الدولية الثانية خاصة الغول الأمريكي والدب الروسي لازالت تتقدم في مشهد هذا القرن. العالم اليوم بتطوره التكنولوجي وغزوه للفضاء والسباحة فيه وتشييد محطات له هناك فوجئ في (فيروس) أطلق عليه (كورونا) لا يراه أحد، احتار العلماء في أمره ولزم (قسراً) أكثر من نصف سكان العالم منازلهم، وأصدرت الدول والحكومات قرارات فرض عدم التجول، وغرامات قاسية في بعض الدول على من يخالف تلك التعليمات تصل إلى عقوبة السجن، وتصدعت إلى حد كبير مجهودات الدول الكبرى وما دونها في القضاء أو الحد من هذا الوباء (الجائح).
وتتعدى تأثيرات هذه (الجائحة) الكبرى كما وصفها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز حدود خطرها على البشر إلى تهديدها المباشر لاقتصاد العالم بكل قاراته، بل إن دولاً ضربها ذلك الزلزال بقوة قد تعلن إفلاسها الاقتصادي.
وسائل النقل توقفت..
السياحة والسفر تعطلت تماماً..
وأسواق الأسهم انهارت..
والاستثمارات توقفت..
والبطالة تفشت..
والفقر زادت حدته..
وشركات ذات شأن أفلست..
وأسعار السلع تعثرت..
واقتصادات الدول اهتزت..
ومن تلك السلع النفط كان سعره قبل (الجائحة) دون السبعين دولاراً للبرميل أقل من السعر الذي تستهدفه (الأوبك) 65 - 75 دولاراً ذلك التوازن في السعر استطاعت سفينة الأوبك أن تحافظ عليه لفترات عدة متعاونة مع دول خارجها في مقدمتها روسيا والمكسيك وغيرها في نادي نفطي كبير، لكن هبوب عاصفة كورونا تركت ظلالها بقوة على أسعار هذه السلعة النفيسة لتنحدر إلى أقل من (30) دولاراً بعد أن كانت تحوم ما بين 62 - 68 دولاراً للبرميل.
هذا السعر المنخفض يعني انخفاض إيرادات الدول المنتجة خاصة تلك التي تعتمد ميزانياتها على نسبة كبيرة من إيرادات نفوطها تصل في بعضها إلى أكثر من 62 في المئة، لكن على الجانب الآخر فإن الأسعار المنخفضة لا يمكن لها الاستمرار على المدى الطويل مثلها في ذلك مثل أسعار المواد الأخرى العالمية لأنها تؤثر على موازين مدفوعات الدول المستوردة ومن ثم تحمل هذه الحكومات على اتخاذ سياسات انكماشية حيث يؤدي تباطؤ النمو الاقتصادي إلى الحد من نمو الطلب على البترول.
هذا النمو وضح بمجرد إعلان كارثة الفيروس في الصين ثاني أكبر مستورد للبترول، إذ انخفض طلبها على النفط وتبعتها الهند وكوريا الجنوبية وغيرها من الدول، فتحقق سبب انخفاض الطلب على براميل البترول فانخفضت الأسعار بشكل (دراماتيكي).
التاريخ يعيد نفسه في حقبة الثمانينيات والسبعينيات من قرن الأحداث الجسام الماضي بعد أن بلغت أسعار النفط ما بين (39 و40 ) دولاراً انحدرت إلى (7) دولارات منتصف الثمانينيات وإلى (10) دولارات في أواخر التسعينيات، وجاءت حرب احتلال بلاد الرافدين لترفع راية الأسعار ولتستمر بالصعود لتبلغ قبل أزمة الكساد العالمي في عام 2008 (147.10) دولار للبرميل.
اليوم كما حدث في الثمانينيات عندما بلغ إنتاج الأوبك (14) مليون ب/ي وشهدت سوق النفط الدولية حرباً للأسعار هوت بأسعار النفط إلى الهاوية، عندها استغلت الدول المستهلكة تلك الفرصة الذهبية لتزيد من مخزونها الإستراتيجي من النفط.
في هذه الفترة (الحرجة) من تاريخ أسعار النفط تعيد تلك الدول تطبيق تجربتها السابقة التي قادتها وكالة الطاقة الدولية آنذاك، فهاهي الولايات المتحدة تدعم مخزونها النفطي ليبلغ مبدئياً في أول مرحلة سقوط الأسعار ليبلغ (635) مليون ب/ي، ولا تتأخر دولا كالصين والهند وغيرهما عن الركب.
وكما يقولون (رب ضارة نافعة) فإن شركات النقل هي المستفيد الأكبر في أجورها التي تضاعفت عشرات المرات، فهي تقوم بالتخزين على ظهور الناقلات في البحار والمحيطات لحساب الدول المستفيدة من هذه الفرصة الذهبية (انكسار الأسعار).
المتابع لتطورات أسعار الذهب الأسود يخرج بنتيجة مؤداها أن السعودية هي العمود الفقري لمنظمة الأوبك، وهي التي انتشلت المنظمة في حقبة الثمانينيات بمبادرتها الشهيرة آنذاك بدعم سعر (18) دولاراً للبرميل ولعبت دور المنتج المرجح Residual producer، فقدمت تضحيات عديدة للأوبك وسوق النفط الدولية حتى تدنى إنتاجها في منتصف الثمانينيات إلى (2.5) مليون ب/ي بعد أن كان أكثر من (7) ملايين ب/ي.
وإذا كانت الدول المستهلك الرئيس للنفط تزيد من مخزونها النفطي في ظل تدني الأسعار، فإن المملكة تحتفظ بحصتها في سوق النفط الدولية بل من حقها رفع إنتاجها، فهي قادرة على بلوغ إنتاج (12.5) مليون ب/ي وقد يبلغ الإنتاج السعودي (15) مليون ب/ي.
وهذا هو مربط الفرس كما يقولون، الأسعار انكسرت شوكتها وتطالب الأوبك بخفض إنتاجها وبالطبع السعودية في المقدمة، لكن واقع الحال يقول أنه لكي تحافظ المملكة على إيرادات مقبولة بميزانيتها فإن بقاء إنتاجها على حاله، بل وزيادته هو الجوهر الأساسي في المعادلة كلها، هذا هو أيضاً الحل الأمثل لدول الخليج العربي الذي تقل تكلفة إنتاج برميل النفط فيها كثيراً عن معظم الدول المنتجة ومنها روسيا وبحر الشمال.
إذا سياسة أرامكو السعودية عملاق النفط الدولية كما نعرفها الحفاظ على حصتها في سوق النفط الدولية تطبيقاً للسياسة السعودية النفطية التي قدمت تضحيات عديدة للأوبك وغيرها للحفاظ على سوق بترولية مستقبلية مستقرة، ولم تجن ثماراً كثيرة، وهي اليوم ليس كالأمس تدعم الأوبك وسوق النفط الدولية لكنها لن تتخلى عن برميل واحد من حصتها من تلك السوق.
ورغم هذه الصاعقة ضد النفط سيبقى أغلى وأهم سلعة عرفها التاريخ البشري.. وهو قد يمرض ويستشري مرضه، لكنه لن يموت وسيعود أقوى مما كان بعد أن يستعيد عافيته والتاريخ يقول هذا.
قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} 155، 156، 157 البقرة.. وقال صلى الله عليه وسلم: (مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حَزَن وَلاَ أَذًى وَلاَ غمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُها إِلاَّ كفَّر اللَّه بهَا مِنْ خطَايَاه) متفق عليه.
والله ولي التوفيق،،،