رقية نبيل
يمكن دائمًا تقسيم البشر إلى صنفين اثنين، صنفٌ يحيا وسط الضجيج وصخب الاجتماعيات، لا يتنفّس إلا في محيط الأكسجين الذي يزفره الآخرون، وآخر يألف العزلة ويأنس بوحدته ويرتاح بسكون الأحياء من حوله ويلقى في الليل من الوداعة وتوارد الأفكار وخلو الخاطر ما لا يلقاه في ضوء النهار، تزدهر في سجوه حدائق قلبه وتنشر روحه جناحيها تحت ظلمائه المرخية سدولها، وغالبًا ما يُنظر لهؤلاء بعين ناقدة، ككائنات عجيبة تستحق أن توضع تحت عدسة المجهر ليُعلم سبب انطوائها ونفورها من الأفواج المزدحمة ومن الصخب البشري المألوف المحبب.
غير أن هؤلاء - أو المعظم منهم على أية حال- هم غالبًا من تتفتق أذهانهم عن إبداعات وعبقرية ومفاجآت ما خطرت على بال من قبل، كم من كتب واختراعات وليدة وشرارات فكر لخطط غيَّرت من وجه العالم ما انبثقت شعلتها إلا في سويداء ليلة بهيمة ظلمتها ذات حين من الزمان.
في وحدتك يشرق على دقائق يومك الذي انصرم نورٌ فريد ترى على أثره الحادثات من زاوية مختلفة، تدرس أفكارك التي كانت بروية أكبر وتتجلَّى لك فسحة لا تعوَّض أبدًا لترى وتفهم وتعي من منظور جديد تمامًا، حقل واسع تفتحه لك فقط الوحدة لتقرأ لتكتب لتتأمل نفسك التي بين جنبيك، نوعٌ من الإدراك لا يتأتى إلا من اعتزال البشر والانزواء إلى مهرب في منأى عنهم.
حين أصيب دكتور مصطفى محمود بداء إثر احتفاظه بجثة منقوعة في محلول الفورمالين تحت سريره لأغراض التشريح، أقعده المرض في غرفته لسنوات، فطلب من أخيه أن يحضر له أيما كتاب يقع تحت يده وقضى هذه الأعوام الثقيلة مسافرًا في بحور الأدب، قرأ لكل الكتاب الروس والفرنسيون والعرب والإنجليز، القصص العالمية والروايات المغمورة ضئيلة الشهرة، فكان في هذا بداية نبوغه قلمه الأدبي، وأنتج عشرات الكتب حتى أضحى التأليف عشقه الوحيد برغم ميوله العلمية التي ملكت عليه قلبه يومًا.
قالوا في الوحدة «ما أنفعها للعاقل وما أفسدها للجاهل» ليس شرطًا أن تنتج العزلة المتنورين والعلماء ورسل القلم، ليس شرطًا أن يكون نتاجها حميدًا، وليسوا وحدهم محبو التوحد والاختباء من يخرج من بين ظهرانيهم المفكر والمخترع، لكن فقط أقول: دعوهم وشأنهم، لا ترمقوهم بأعين مستهجنة، لا تفرضوا عليهم رفقة البشر، دعوهم لوحدتهم، ففيها من الأنس والأصوات والازدحام والبهجة الكثير، حتى وإن كانت أصواتًا لا تُسمع أو رفقة لا تُرى.