د.محمد مسلم الحسيني
كلما استمعنا لنشرة عن أخبار وباء كورونا الجديد «كوفيد - 19» أو قرأنا تقريرًا عنه قد نقع على رسوم بيانيّه ومنحنيات تبيّن مسيرة عدد الإصابات بهذا الوباء أو عدد الوفيات أو عدد المرضى الذين أدخلوا إلى المستشفيات أو من تشافى منهم. هذه الأعداد محسوبة بشكل نسبي مع عامل الوقت والزمن. يبدأ المنحني من نقطة الصفر الزمني والعددي ويشرع بالتصاعد التدريجي في تسجيل الإعداد منذ أول يوم للحدث حتى يصل ذروته العددية أو القمة، تبدأ بعد ذلك الأعداد بالنزول والهبوط حتى تعود إلى الصفر العددي للإصابات في نهاية المدى الزمني لها.
لو تمعنا في تفاصيل هذه المنحنيات الوبائية لوجدناها تتباين من بلد لآخر في طبيعتها ومسارها، فمنها ما يرتفع إلى الذروة ببطء ويهبط ببطء أيضًا، حيث نكتشف بأن إعداد الذروة قليلة نسبيًا سواء كانت تخص عدد الإصابات أو أعداد المرضى أو المتوفين وهكذا تكون قمة المنحني واطئة نسبيًا. هنا يكون المدى الزمني لمسيرة الوباء طويل نسبيًا أيضًا، وأشير لهذا المنحنى بالـ»نمط أ». في المقابل نجد في بلدان أخرى النمط الثاني «نمط ب» من المنحنيات الوبائية، وهو بعكس النمط «أ» أي يرتفع المنحنى بحدة وينخفض بحدة أيضًا، حيث تتميز الذروة بارتفاع عدد الإصابات فيها أو عدد المرضى أو الوفيات حيث يكون ارتفاع قمة المنحنى عاليًا، ويكون المدى الزمني لمسيرة الوباء أقصر مما هو عليه في نمط «أ». تنفعنا هذه المنحنيات في دلالتها وفي معنى الاختلافات في حركتها، وتجعلنا ندرك أي من النمطين أفضل في الحفاظ على الأرواح وتقليل الخسائر البشرية.
عندما نتفحص منحنى الإصابات اليومية بوباء «كوفيد - 19» في بلد ما ونجده من النوع بطيء المسار قليل الارتفاع طويل المدى (النمط أ)، فهذا يعني بأن عدد الإصابات اليوميّة قليلة وترتفع ببطء مع الزمن وإن سرعة انتشار الوباء بطيئة ومسيطر عليها. كما يعني هذا أيضًا أن الحالات المرضيّة قليلة والضغط على مستشفيات الدولة خفيف مما يسمح بعناية مركزة كفؤة للمرضى، دون ضغوط على الكادر الطبي والتقني، حيث يؤدي هذا في النهاية إلى تقليل عدد الوفيات. هذه هي إشارة مهمة تدل على نجاعة التدابير والسبل المتبعة في السيطرة على هذا الوباء. على العكس من هذا، فالمنحنيات سريعة المسار عالية القمة قصيرة المدى (النمط ب)، تدل على أن الوباء انتشر بشكل سريع فأصاب عددًا كبيرًا من أبناء المجتمع وامتلأت المستشفيات بالمرضى مع زيادة مطردة ومتناسبة مع عدد الوفيات. دون شك فالنمط «أ» يكون الأكثر مناسبة للمجتمع الموبوء لأن المحصلة هي قلة واضحة ومحسوسة في عدد ضحايا الوباء بشكل عام.
السؤال المطروح هو من الذي يتحكم باختيار مسيرة وطبيعة المنحنيات الوبائية، وما أسباب اختلافها بين البلدان؟. إدارة الدولة وسياستها إزاء هذا الوباء تتحمل القسط الأكبر في خيار أنماط المنحنيات لأن إجراءاتها الأولية بالتصدي للوباء ومنعه من الولوج إلى بلدانها هي مسؤوليتها أولاً. الإجراءات الصحيحة الأولية والمتعلقة بفحص ومراقبة الوافدين الأجانب أو العائدين من بؤر الوباء وحجرهم ومراقبتهم هي خطوات ضرورية جدًا في حصر الوباء وجعل انتشار الإصابة بطيئًا ومسيطرًا عليه. تباينت سياسات الدول في إجراءاتها هذه بين تصدٍ وإنتباه وحذر وبين تهاونٍ وعدم اكتراث ولا مبالاة!، فقد كان الغرب بمعظم بلدانه غير مهتم بخطورة هذا الوباء حيث لم يتصد له منذ البداية ولم يتحسب لنتائجه ومضاعفاته إلى حد مربك وغير مفهوم! عدم الاكتراث هذا ربما كان بدوافع رئيسة ثلاثة: أولها عدم تفهم المسؤول الغربي لطبيعة هذا الوباء الاستثنائية والقدرة المتميزة للفايروس الجديد الذي اختلف فيها عن أخواته سارس وميرس وإنفلونزا الخنازير والطيور وغيرها. حيث شاعت فكرة عدم خطورة هذا الوباء في جميع الأوساط إلى درجة إن كتبًا رسمية وزعت إلى دوائر الدولة ومؤسساتها في بعض هذه البلدان تقلل من شأن الوباء وخطورته وتدعو المواطنين إلى عدم الخوف، وقد أدعت بأن هذا الوباء ليس أشد خطورة من الإنفلونزا الموسمية العادية! بينما راح بعض رؤساء دول الغرب بعيدًا حينما صرّح أحدهم بأن وباء «كوفيد - 19» ما هو إلا «خدعه»! حيث لم يختلف هذا الخطاب عن بعض ما نقرأه في وسائل التواصل الاجتماعي من أفكار غريبة خاطئة عن حقيقة هذا الوباء وحيثياته. انطلاقًا من هذه المفاهيم والأفكار لم تفرض هذه الدول قيودًا على السفر لبؤر الوباء ولم يحجر من عاد منها حتى انتشر الوباء فيها وعلى الرغم من هذا الانتشار كانت المدارس والجامعات ومؤسسات الدولة وأماكن التجمع والازدحامات على طبيعتها حيث لم تغلق ولم تتخذ أي إجراءات تحوطيّه بشأنها، حتى تفشى الوباء وأصبح كل إجراء تحوطي متأخرًا.
الدافع الثاني لهذا التهاون هو عامل الاقتصاد، حيث لم يتقبل المسؤول الغربي إيقاف عجلة الاقتصاد في زمن الهشاشة الاقتصادية والرجوع إلى حالة الكساد المزمن الذي عانت منه كثيرًا من تلك الدول خصوصًا بعد النكسة المالية والاقتصادية التي خلفها إفلاس البنك الأمريكي العملاق «ليمان براذرز» في الربع الأخير من عام 2008م. إجراء التحوطات الوبائية القاسية يعني نكوص الاقتصاد وشل عجلته المتباطئة أصلاً، بل رفع مستوى الديون المالية على الدول وزيادة حادة في إعداد ونسب البطالة فيها. كانت المعادلة صعبة عند البعض بين التضحية بالاقتصاد وبين الخسائر في البشر، وهذا بيّن طبيعة حالة التردد والتهاون الواضح في الحسم وتبني الإجراءات الوقائية الصارمة التي نصح بها أهل الاختصاص منذ البداية.
الدافع الثالث هو التوجه السياسي، حيث إن الجو السياسي السائد في معظم بلدان الغرب مؤخرًا كان مطعمًا برؤى شعبوية متطرفة تنضح منها روح الأنانية المادية والتقوقع على الذات. تسلق الشعبويون مقاليد الحكم في بعض البلدان وتوغلوا في صناعة القرار في البعض الآخر، مما أظهر حقيقة الرؤى والأفكار المتطرفة في التعامل مع الأحداث التي في أكثر الأحيان تبدو مخالفة للحس الإنساني والعقلاني الصحيح. من خلال مقتطفات ما صرح به بعض السياسيين وأهل القرار في صدد هذا الوباء، فقد سمعنا من ينادي بمناعة «القطيع»، أي دعوا إلى ترك الوباء يغزو المجتمع كي يبني المجتمع مناعة عامة منه، فلا داع لإجراءات صارمة تؤذي البنية الاقتصادية للبلد! وسمعنا أيضًا منهم من يقول: إن الموت بحوادث الطرق هو أشد وطأة من هذا الوباء، وضحايا الإنفلونزا الفصلية في العالم أكبر من ضحاياه، والتضحية بالاقتصاد هو معالجة الوباء بوسيلة أخطر من الوباء نفسه، وإلى غير ذلك من أقوال تنم عن رفض واضح لاتخاذ إجراءات وقائية صارمة ضرورية للتصدي للوباء ومضاعفاته. كانت نظرة هؤلاء السياسيين للحدث قصيرة جدًا لأنهم جعلوا الاقتصاد يسمو على الروح البشرية من جهة، وتناسوا بأن عنف هذا الوباء وآثاره ومخاطره ومضاعفاته ستؤدي إلى دمار الاقتصاد بنحو أخطر وأعمق مما لو تصدوا له منذ البداية، من جهة أخرى. حيث ينطبق هنا عليهم المثل القائل «فإنّ المنبتّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى»، فالخسائر الاقتصادية ستكون مضاعفة إضافة إلى خسائر الأرواح الكبيرة!
دون شك هناك أيضًا عوامل ثانوية أخرى لها أثر في انتشار الوباء وتفشيه ومنها الثقافة الصحيّة العامة والثقافة الصحيّة الخاصة المتعلقة بهذا الوباء عند أبناء المجتمع، والتزاماتهم الفردية لتجنب الوباء، إضافة إلى البنية الصحيّة المجتمعية والفردية التي من شأنها خفض عدد الإصابات وتخفيف حدة المرض وتقليل نسب الوفيات فيه. ومهما يكن من أمر، لا بد أن تصبح منحنيات «كوفيد - 19» في معظم بلدان الغرب من طراز «ب» أي أن الخسائر البشرية ستكون كبيرة عندها مقارنة بغيرها من البلدان، كالبلدان العربية مثلاً، التي اختارت النمط «أ» من بين المنحنيين، وستبقى هذه النتيجة موقع فشل صريح في تأريخ التعامل مع هذا الوباء في دول الغرب ومن حذا ويحذو حذوها!.