عبدالوهاب الفايز
مبادرة الحكومة لإبقاء الوظائف في القطاع الخاص تتواصل، والجديد تحمل الأعباء الطارئة عبر ثلاث مبادرات منها تحمل (60 في المائة) من رواتب السعوديين ممن هم على رأس العمل وعددهم يتجاوز المليون، وكذلك مساهمة صندوق الموارد البشرية بدفع ثلاثة آلاف ريال بأثر رجعي، وقرار وزارة الموارد البشرية قصر ممارسة نشاط نقل الركاب من خلال خدمة توجيه المركبات بالتطبيقات الذكية على السعوديين، وهو القرار الهادف توسيع الوظائف للسعوديين، كل هذه المبادرات دعم للقطاع الخاص للاحتفاظ بالعاملين.
وتواصل القرارات والأوامر المهمة لمعالجة الأزمة الحالية، كلها تستهدف استقرار حياة الناس واستيعاب المخاطر على الاقتصاد الوطني. وقرار دعم الوظائف، كما توقعنا، جاء في أولويات الملك سلمان وسمو ولي العهد، يحفظهما الله، فدعم الوظائف ودعم المنشآت الصغيرة والمتوسطة له آثاره الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية.
تعزيز القوة الشرائية للناس عامل مهم لتحريك الدورة الاقتصادية. كما ذكرنا في مقالات سابقة، ففي الأزمات الكبرى التي مرت بها الاقتصاديات التي تتبنى الأسواق الحرة وحرية التجارة يصبح التدخل الحكومي ضروري لتحريك الطلب على السلع والخدمات، وللسيطرة على العوامل الأساسية المؤثرة في عدالة المنافسة وحرية الأسواق، والتاريخ الاقتصادي بعد الأزمات التي تلت الحربين العالميتين يقدم أمثلة عديدة.
أحد هذه الأمثلة الكلاسيكية للتدخل الحكومي، التي يشار لها دومًا، هو تدخل الحكومة الأمريكية بعد الكساد العظيم، فقد دفع الرئيس روزفلت بحزمة قرارات رئيسة، أولها ضخ الأموال في برنامج خاص لتوظيف العاطلين الذي وفر 8 ملايين وظيفه دائمة، (البطالة وصلت إلى ثلث السكان)، إضافة إلى برامج واسعة للحماية الاجتماعية وتوسيع حقوق العمال، مع الإنفاق الواسع على مشروعات البنية الأساسية، وكذلك تمرير الكونجرس لقانون الضمان الاجتماعي، الذي قدم لأول مرة للأمريكيين دعم البطالة والعجز والمعاشات لكبار السن.
وتوسع دور الحكومة في الاقتصاد يُتوقع أن يطرح بقوة بعد الأزمة الحالية، فالأزمات المتلاحقة للاقتصاد العالمي أطلقت تيار فكري قوي يطالب بمراجعة مبادئ العدالة والأسس التي قامت عليها الرأسمالية بالذات دور الحكومة في الاقتصاد. ويدعم هذا التيار حقيقة أن الحكومات هي الأسرع والأقدر على الحركة لاستيعاب المخاطر لدعم عوامل الاستقرار الاجتماعي.
ومستقبلاً أول قطاع مرشح أن تعود الحكومات للامساك به وإدارته هو القطاع الصحي، فهذا القطاع عبثت به سياسات التخصيص وحرية التجارة، مما أدى إلى رفع كبير لتكلفة القطاع نتيجة التركيز على الطب وإهمال أساسيات الصحة العامة، بالذات الرعاية الأولوية والتثقيف والتوعية الصحية، وكذلك إهمال احتياجات الفئات الضعيفة مثل كبار السن والأطفال، وذوي الإعاقة وأصحاب الاحتياجات الخاصة!
والأزمة الحالية تقدم المثال لأهمية إدارة الدولة للقطاع الصحي، فلدينا وزارة الصحة والجهات الصحية الأخرى تتولى بكفاءة التصدي للوضع القائم الحرج، وتعمل الآن بإمكاناتها ومواردها البشرية لتنسيق استثمار هذه الموارد لأجل تقديم الخدمات الضرورية للمرضى بطرق مبتكرة وسريعة، والأزمة كشفت عن قدرة الكفاءات الوطنية (ذات التجربة الطويلة والتأهيل العالي) على الإدارة وسرعة التحليل للمشكلات، واتخاذ الحلول الجيدة الذكية وغير المكلفة. (لَم يحتاجوا شركات استشارات عالمية!)، فالأزمات تخرج معادن الرجال والنساء.
وأيضًا هذه المعادن نراها في القطاع الخاص، فتجربة قياداته توفر فرصة للحكومة للاستفادة منها، ففي الأزمات السابقة كان لهم دورهم لتقديم الحلول الإيجابية التي تخدم مصالحنا الأساسية العليا، ونتمنى الاستفادة من تجربتهم الثرية، حتى نتجاوز المرحلة الحرجة كما نجحنا في مواجهة أزمات سابقة.
القطاع الخاص يحتاج وقفة الحكومة معه، بالذات الشركات والمنشآت التي توسعت في توظيف السعوديين وتقدم الخدمات الضرورية للنشاط الاقتصادي، هذه تحتاج الدعم حتى نحافظ على خدماتها ومكتسباتها الوطنية، ونحن نتوقع من قياداتها سرعة المبادرة لتوسيع استقطاب الباحثين عن العمل، بالذات في قطاع الخدمات القادر على تسيير أعماله عن بعد، فالمبادرات الأخيرة توفر فرصة للتوظيف.
أخيرًا هناك أمر مهم: الذي نرجوه من الأجهزة الحكومية هو المبادرة إلى تسهيل الإجراءات وتطوير (رحلة العميل) مع خدماتها الرقمية، وهي الآن أمام اختبار حقيقي، فالإجراءات المعقدة والطويلة في الخدمات الرقمية غير المبسطة وغير الذكية قد تحد من إقبال منشآت القطاع الخاص على الاستفادة من هذه المبادرات. ونخشى أن تقع بين أمرين احلاهما مر: المعاناة مع الإجراءات الحكومية، أو قد تجدها مضطرة لفصل العاملين كأسرع طريقة لخفض النفقات وتحمل الخسائر!
هذا أحد (المخاطر العالية) التي نتمنى اهتمام ومتابعة الجهات السيادية لها.
هل ثمةَ من يقرأ بحضور ذهني واهتمام. نرجو ذلك!