د.فوزية أبو خالد
أقاوم ككل البشر اليوم جحيم الجائحة بريشة الأمل، بسلاح الدعاء، وبالإخلاص للعزلة، وبذلك السحر الحلال المسمى «حب الحياة ما استطعنا إلى ذلك سبيلا» بتعبير الشاعر محمود درويش.
ولهذا فأنا أكتب مقالاتي للأسبوع الرابع من منتبذي القدري في عين المعركة مع فيروس الكورونا من كمين الأمكنة بمنهاتن القلب العاصف لمدينة نيويورك. وأراه منتبذًا قدريًّا لأن خطتي كانت تقتضي أن أكون منذ قرابة ثلاثة أسابيع مضت ببيتي بحي الربيع الغربي بمدينة الرياض لأقوم مع مطلع شهر إبريل بتوقيع «سيرة الأمهات/ الكتابة بحبر الحياة», كتابي المشترك مع خمسين كاتبة وكاتبًا سعوديًّا، ومقدمة للأستاذ عبدالعزيز الخضر، وذلك بمعرض الكتاب 2020. وقد كان لدي فعلاً حجز الرياض - نيويورك يوم 20 مارس للعودة عليها إلى أرض الوطن بعد إتمام بعض الالتزامات. فكانت هناك زيارة خاطفة قمتُ بها لشقيقي مشاري وأسرته ولأسرتي الأمريكية وزملاء المهنة وبعض طلابي بديرة دراستي الجامعية الأولى بمدينة بورتلاند بولاية أوريجن خلال النصف الأخير من شهر فبراير, كما كانت هناك في النصف الأول من شهر مارس مراجعة طبية لمستشفى كورنيل، نزلت خلالها ضيفة على ابنتي بنيويورك، ولم أكن أعلم ولا أخطط أن تكون ضيافة طويلة في بيت معلق صغير بالكاد يتسع لها ولزوجها وأطفالهما.
والسؤال ليس ماذا أكتب في هذا المعتزل المكتظ ما شاء الله تبارك الله، بل إن السؤال المفارقة هو كيف أكتب وأنا أعيش على شفى الموت من الإحصاءات اليومية لحالات الإصابات المبرحة، ولنداءات حاكم نيويورك «أندريه كومو» ورئيس بلديتها «بيل دي بلازيو» المستنجدة والمطالبة باستنفار الجيش و»تطمينات» رئيس البلاد (الصَحافية نسبة للصحاف) في الوقت الذي أحيا وحولي وأمامي وخلفي هذه الكمنجات العذبة من أصوات العصافير وصخب الأطفال التي لا هم لها كالنحل إلا صناعة العسل أو الأمل باللهو حول حقول متخيلة.
*****
عليّ أن أقوم بعلاج طبيعي يوميًّا، كما علي أن أمشي بحسب الرأي الطبي لحالتي، وإن بإيقاع مشيتي الخافت الوئيد، ما لا يقل عن 90 دقيقة يوميًّا. فأين أتعالج؟ وأين أمشي وأنا عالقة هنا، خاصة وقد فضلتُ اتباع منع التجول «الصحي» الصارم لمدينة الرياض وأنا بنيويورك لريبتي في التسيب الذي كان يرتع فيه سكان نيويورك. وبما أن الشاطرة تغزل بظلف الذئب، أو بمرود كحلها، كان لا بد أن أعثر على حل وإن مؤقتًا لئلا أفقد لياقة الحركة نهائيًّا. صرت أمشي في الممر الضيق الطويل ذي الأرضية الكالحة والأبواب العشرة المتلاصقة للشقق المجاورة, بالكمامة والقفزات, وإن كنتُ لا شعوريًّا أفز من صوت كل «عطسة» أو «كحة» تصدر من خلف أحد تلك الأبواب الموصدة بإحكام على أرواح يجرحها صمت عميق، وأجساد تهيم انتظارًا لنسمة حرية. بعد تجربة صرتُ أتجنب المشي في ساعات النهار؛ لأنني قد أصادف جارة أو جارًا في الممر؛ فيضطر كل منا إلى أن يدير ظهره للآخر محتكًّا وجهه بالجدار تقريبًا لئلا نتنفس في وجوه بعض وإن من خلف «لثمة». المشي مساء على ضوء طبقة خفيفة من العتمة أول هجعة الكائنات وإن بين جداري ممر ضيق مليء بالوعور، وببقايا رائحة الطبخ، يمنحني شعورًا عميقًا بالتحرر مني ومن الآخرين، وكأنني ذرة كونية نابضة صغيرة ليس إلا، أقوم بعملية «هايكنج» في فضاء ثلجي أو صحرائي شاسع، لا يشاركني أحد فيه إلا مناجاتي لربي.
تُطفَأ الأضواء في البيت الذي يستضيفني الساعة التاسعة مساء «بالكثير»، ويذهب الجميع للنوم حفاظًا بالنسبة لهم على مواعيد المدرسة والعمل الباكرة، وحفاظًا بالنسبة لي على مناعتي بحسب حرص الحبيبة الصحي على صحتي؛ فأضطر للالتزام بعادات عائلتي المضيفة «فإذا كبر ولدك خاويه ويبدو إذا زرت أبناءك جاريهم». أحشر نفسي في الطبقة السفلية لسرير حفيدي الذي يسميه «البنك بد». أقرأ على الصغار المعوذات بعد قراءة قصة قصيرة، أو تأليفها، ثم على صوت ضحكات الأطفال وأسئلتهم التي لا تنتهي أتظاهر بالنوم وأنا مفتوحة العينين إلى أن أسمع صوت ركضهم إلى عالم الأحلام. بمجرد شعوري باحتكاك أجنحتهم الصغيرة بنجوم السماء أنسل بدوري من السرير، وأقف بالشباك لأقرأ مشهد مدينة نيويورك وهي تشعل الليل بامتداد جسورها المتلألئة على النهر الشرقي، وبأضواء ناطحات سحابها، بما فيها مبنى الأمم المتحدة ومبانيها الأخرى الشاهقة التي لا تنام، غير أن أصوات سيارات الإسعاف التي لا تصمت؛ تأبى إلا أن تكون النقيض لهذا المشهد الشعري؛ فتتدخل في السيناريو بتلك الجائحة، وتحوِّل المشهد إلى كتاب درامي، يقض مضجعي بصور أولئك المرضى داخل صناديقها المغلقة وهم يتأرجحون بين الحياة والموت. يقشعر قلبي وأنا أتساءل, وقد علمتُ أن المستشفيات لا تستقبل إلا الحالات «المخطرة»: هل يا تُرى سيعودون لمن يحبون يومًا أم إنهم سيموتون في معابر طبية كغرباء حيث لا يستطيع أن يكون ولد مع والدته، ولا زوجة مع وزجها، ولا حبيب مع حبيب حذاري العدوى وتجنبًا لتفشي الوباء؟ أسأل في نفسي عن نفسي، عمَّن أحب، عن الأطباء والطواقم الطبية الواقفة بصدور عارية على خط التماس، ولا أجد ملاذًا من منتبذي إلا الله؛ فأبتهل لله بكل جوارحي أن يحمي العالم من هذه الجائحة، ويحمي العالم من العالم.
المحاكمة كافكا, عصفورية القصيبي, رباعيات الخيام, تجليات ابن جلال الرومي، «الآخرون هم الجحيم» لسارتر, عندما تتساقط الأشياء لباما تشاودرون, الباقي من الزمن ساعة لنجيب محفوظ. أشاهد أفلامًا لم تكن تستهويني من قبل لأجد لها وقتًا إلا أنني أجرب أخذ فكرة عما جاء فيها: فيلم بعد 28 يومًا, فيلم 93 يومًا, الفيلم الإسباني الأيام الأخيرة, فيلم العدوى 2011, وفيلم الجائحة Pandemic الطازج يناير هذا العام 2020، إلا أن لا شيء يشفي غليل الغابة في مواجهة غول ليس له رأس ليعقل، وليس عنده عاطفة ليشعر بفجيعة البشرية المفاجئة.
أقترب من نهاية المقال، ولم أكتب البداية بعد.
هناك نقاط عدة كنتُ أروم أن أتوقف عندها في هذا المقال إلا أن عدد الكلمات يداهمني، وعلى ندرة ما يحدث أن تنفلت رغوة اللغة من يد كاتبة قضت عمرها في القبض على جمرة الكلمة فلا بد أن أعترف هنا بتمرد النص على الأزميل، والصورة على العدسة، والواقع على الخيال، أمام هذه الآية الإلهية الخارقة التي تكشف للإنسان هشاشته وإن استقوى، ووقتيته وإن عَمَر، وعزلته وإن تعولم بما لا قِبل لنا به اليوم إلا بنعمة إعادة التفكر والعمل المشترك لمواجهة حتمية الموت بتفكيك حالة التوحش السائدة، وكتابة «عقد إنساني» جديد مع الحياة.
النقاط العديدة التي كنت أريد الكتابة عنها، وسأعود إليها في المقال القادم لو كتب الله لي حياة جديدة، هي على التوالي:
تجربة تعليم الأطفال عن بعد.
تجربة التواصل الاجتماعي عن بعد.
أدب العزلة.
كاميرا العزلة.
الموت وحيدًا السؤال الموجع الذي تطرحه هذه الجائحة، ليس الحياة في العزلة بل الموت غريبًا ووحيدًا في منتبذ أو عنبر طبي.
مراجعة الأدب في العزلة.
من أدب الرحلات وأدب السفر وأدب الغربة لأدب الكمين والمعتقلات العالمية والمعتقلات الصغيرة.
الشعور بالسجن.