محمد آل الشيخ
يقول تاريخ الأوربيين إن وباء الطاعون الذي ظهر في أوربا في أواسط القرن الخامس عشر الميلادي، وفشل النظام الكهنوتي الكنسي آنذاك في التعامل معه، كان من أسباب ظهور المصلح الكنسي مارتن لوثر، الذي بدوره كان من أسباب تراجع دور رجال الدين فيما بعد، وبزوغ عصر التنوير في أوربا.
وإذا ما التفتنا إلى بواعث ومبررات ظاهرة التأسلم السياسي في منطقتنا، سنجد أنه ظهر بعد نجاح ثورة الخميني في إيران والإطاحة بعرش الطاووس الشاهنشاهي عام 1979، وهذا التاريخ، إضافة إلى أسباب أخرى، يُعتبر بداية عصر التأسلم السياسي كما يؤكده كثير من المحللين، والذي أطلق عليه عصر الصحوة.
جماعة الإخوان المسلمين، أو بلغة أدق (المتأسلمين)، تأسست عام 1928 بعد سقوط دولة العثمانيين في تركيا. غير أن هذه الحركة ظلت إلى حد كبير هامشية، ولم يكن لها تأثير ذي شأن في التاريخ العربي المعاصر، حتى هُزم القوميون العرب في معركة حزيران مع إسرائيل عام1967، ثم وفاة عبدالناصر، وتولي الرئيس المصري أنور السادات حكم مصر، وتبنيه التيار السياسي المتأسلم ليضرب به التيار الناصري الذي كان مسيطرًا حينها على مقاليد السلطة في مصر، ثم انتصرت الثورة الخمينية في إيران عام 1979، فراحت الجماهير العربية تبحث عن حل مشابه للثورة الإيرانية، فوجدوا تراث جماعة المسلمين، التي كانت هي الوجه الجاهز لتسييس الإسلام، ولكن على الطريقة السنية. من هنا انطلقت شرارة (التأسلم السياسي)، وتبناها كثير من الجماهير العربية؛ لهذا كله فإن الثورة الخمينية، كانت هي الجذوة الأولى التي أشعلت ظاهرة التأسلم السياسي، وأعطتها هذا الزخم الذي استمر طوال العقود الأربعة الماضية.
الآن يبدو أن قواعد اللعبة السياسية تغيرت لأسباب ومبررات كثيرة، من ضمنها فشل جماعة الإخوان المسلمين عندما تولوا السلطة في مصر، وفي السودان، وكذلك -وإن بدرجة أقل- في تونس. أضف إلى ذلك أن التجربة الإيرانية الخمينية عجزت من الخروج من رحم الثورة إلى مرحلة الدولة، وهذا (العجز) جعلها على أرض الواقع تفشل في منظور الإيرانيين لإيجاد حل حضاري كانوا ينتظرونه منها عندما ثاروا على الشاه، الأمر الذي جعل هذه الثورة تتحول إلى كابوس قمعي متخلف، يكتم الأنفاس، ويدافع عن الفساد، ولا تهمه التنمية الاقتصادية التي هي سر بقاء الدول.
ثم جاءت كورونا، التي كانت بكل دقة بمنزلة القشة التي قصمت ظهر البعير الإيراني المنهك بسبب عدم قدرته على مواجهة التحدي الاقتصادي.
وليس لدي أدنى شك أن كورونا، وتفشيها المخيف في الداخل الإيراني، ستعصف بدولة الملالي، كما أنها ستعصف كذلك بكل أشكال التأسلم السياسي السني.
الطاعون الأسود أطاح بالكهنوت الكنسي في أوربا في القرن الخامس عشر كما سبق وأن ذكرت، وسوف تقوم كورونا بالدور نفسه بالنسبة للكهنوتية المتأسلمة في بدايات القرن الواحد والعشرين الميلادي.
وكل من يقرأ تراكمات الأحداث في الآونة الأخيرة سيصل حتماً إلى هذه النتيجة.
إلى اللقاء