د. حسن بن فهد الهويمل
مخلوقٌ لا يُرى، مُختلفٌ في حياته، أرعب العالمَ، وأذلهم، وكشف عن ضعفهم، وارتباك معارفهم، وهشاشة عقائدهم.
بظهوره انهار (الاقتصاد العالمي) بشكل لم يُعْهد له نظير، وانهارت دول، وشركات، وأفراد.. وبلغت الخسائر أرقاماً فلكية، لا أحد يستطيع توقعها، فضلاً عن حصرها. كل شيءٍ أُغلق، وكل شيءٍ توقَّف، وكل متحرك سكن.
المرتزق الضعيف من نقل الطالبات، والمُصَرِّف القوي لاقتصاد العالم، في الحالِ سواء.
حَطَّم الفيروس كلَّ شيء، أتى عليه دِقَّه، وجِلَّهُ، ظاهره، وباطنه، قويه، وضعيفه. ولمَّا يزل يحتنك البقية. خمودٌ، وخمول، وانحباس حيث يكون الفرد، والجماعة.
كل الباحثين في شأنه، والساعين لاكتشافه، وتحديد حجمه، وتركيب علاجه، لم يتفقوا على شيء.
(البعوضة) المُدْرَكة حَجْماً، وأثراً، لا يحس بلسعها إلا بعد مبارحتها مكان الألم حفاظاً على حياتها. وما دونها (الفيروس) الذي لا يُرى، ولا يعرف إلا من خلال أعراضه، شغلا العالم، وأنهكا المعامل، والمختبرات.
وإذا عُثِر على الشفاء من وباء (الفيروس) يكون قد أنهى دورته، ورحل؛ ليأتي فيروس آخر، يلعب دوره.
غير أن (فيروس كورونا) خَلْق آخر، لم يمر مثله على العالم، برعبه، وانتشاره، وخطورته، وأثره المدمر لكل شيء.
إنه من جند الله:- {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}. {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}.
كشف هذا المخلوق اللَّامَرْئِي ضعف العالم، ونقص معلوماته:- {وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا}. {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيم}.
حَيَّر في ذاته، وحيَّر في أثره، وأضلَّ في حكم وجوده، وفي إنزال الحكم عليه.
كما كشف عن ضعف الإنسان، وحقق بفعله الموجع قول الله تعالى:- {وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا}.
الإنسان في القرآن مجرداً من الأمانة التي حَمَلَها ظلوماً، جهولا، جاء في سياق الذم.
وكتاب (الإنسان في القرآن) للعقاد لا يتناول هذا الجانب، بل يركز على النشأة، في سياق الرد على (نظرية دارون) التي ولدت خداجاً.
ومع ذلك الضعف والجهل فالإنسان مخلوق مُعَقَّد، غامض. والنوازل من أوبئة، وحروب، وأزمات تكشف عن جوانب كثيرة فيه، لم تدرك في حالة الأمان، والسلم.
تأتي الحوادث، والكوارث، والأزمات كالقنابل الضوئية، تكشف المناطق المعتمة في حياة الإنسان المشكل.
هذا (الفيروس) الخفي خفاء الحقيقة لم يكتفِ بالتدمير الاقتصادي، بل تجاوز ذلك إلى خلط الأوراق، وإرباك الأفكار، وتشتيت الآراء، وخلق العداوات.
نِزاعٌ علمي، وفكري، وسياسي لم ينتهِ بعد، رغم الخوف، والحجر، والعزل، والانهيارات المتعددة.
أثيرت تساؤلات حساسة تتعلق بـ(العقيدة) من جوانبها المتعلقة بالقضاء والقدر، وأفعال الله، وتدبيره، وأفعال العباد. وأعيد مصطلح (القضاء والقدر) والتَّسيير، والتخيير، وقانون المادة، والسنن الكونية، والسبب، والمسبب، والتعليل.
وتقحم الماديون، والملاحدة الجهلة مشاهد الجدل، ووقع الجهلة في (نواقض الإيمان) من حيث لا يعلمون.
الله خالقُ كل شيء: خيره، وشره، ومدبر ذلك. والسنن الكونية التي لا تتبدل، ولا تتحول، لا تلغي معية الله، وتدبيره، وحكمة أقداره، وعدلها.
كل الكوارث قدر من أقدار الله، خلقها، وقدر وقوعها، ودبرها.
هذا المخلوق الأصغر والأضعف حطَّم الأصنام، وأذل الجبابرة العظام، ووضع الإنسان في حجمه الطبيعي. حَجْمٍ لا يحسد عليه.
سبحانك ربي ما أعظمك، وأحكمك، وأعدلك:- {كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى}. {وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُوسٌ قَنُوط}.
فعلاً لقد طغى الإنسان، وتكبَّر، وتجبَّر، وظلم. ومن ينكر طغيانه، والجبابرة يملكون من الرؤوس النووية، والترسانات العسكرية، أضعاف ما يملكون من أجهزة التنفس، والمشافي، وعندهم من جنود القتال أضعاف الأطباء.
هذا الفيروس آية خضعت لها الأعناق:- {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّن السَّمَاء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِين}.
يستبعد البعض خلق الشر، وتقديره، وينزهون الله عن ذلك. وتلك إعادة غبية لرؤية المذاهب الكلامية من: (قدرية) و(جَبْرية) و(حرورية) و(معتزلة)، و(مرجئة).. وكل حدث مقدر بكل دقة زماناً، ومكاناً، وأثراً، ومُدَّة:- {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير}.
فالله خالقُ الخلق، وأفعالهم. أيُّ حدث مدمر هو في النهاية خلق، وقُدِّر ليكون:-
- عقاباً، أو بلاءً، أو عذاباً، أو تمحيصاً، أو عتاباً، أو تخويفاً.
لا بد من سبب مناسب لقضاء الله، وحين ينتفي السبب يكون الحدث عبثاً، وظلماً، ولعباً. والله منزه عن ذلك.
لكل قَدَرٍ سبب، ومسبب، لا ظلم:- {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}. (كُلُّ ابَن آدَمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ).
الإنسان بين الرجاء، واليأس، والتشاؤم، والتفاؤل، لا يأمن مكر الله:- {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُون}. ومن الدعاء المأثور:- (يا مقلب القلوب).
والحَيُّ لا تؤمن عليه الفتنة، والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، وهو محاصَر بالهوى، والشهوة، والغريزة، والنفس الأمَّارة. وقلبه بين أصبعَين من أصابع الرحمن:- {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى}.
اللهم ارفع بأسك، وقِ عبادك، واحمِ مقدساتك، وارفع درجات من أجريت نعمك على أيديهم، من قادة يدبرون، وعلماء يفتون، ومسؤولين ينفذون.